يُصرّ الياس خلاط، مؤسّس "مهرجان طرابلس للأفلام" ومديره، على تنظيم دورة سنوية له، رغم مصاعب وتحدّيات جمّة، أبرزها الانهيار متنوّع الأشكال الذي يُعانيه لبنان منذ نحو عامين، وتفشّي وباء كورونا. للدورة الـ7 موعدٌ يختلف عن الموعد التقليدي. الموعد الجديد سيكون بين 5 و12 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بينما الموعد السابق مرتبطٌ بشهر إبريل/ نيسان. المدينة هذه عاصمة الشمال اللبناني، وللسينما فيها تاريخٌ وذكريات، رغم أنّ راهنها معطوبٌ سينمائياً بشكلٍ تام، باستثناء جهد المهرجان في إعادة إحياء الفن السابع فيها، وإنْ بتواضعٍ، والتواضع موسومٌ باشتغالٍ حيوي.
لا صالات سينمائية في طرابلس اللبنانية، منذ وقتٍ مديد. هذا قدرٌ يحاول المهرجان تغييره. الدورات السابقة شاهدٌ، لكنّ الواقع، المنسحب على السياسة والاقتصاد والزعامات والطائفية والقبائل، يحول دون نفض الغبار عن صالة واحدة على الأقلّ، ولبعض صالات الماضي أمكنتها المعطوبة والمغلقة. المهرجان، بتواضعه وبساطته وأدواته العادية، يصنع مساحةً يُفترض بها أنْ تتوسّع، دورة تلو أخرى، مع أنّ أحوال البلد مزرية، والخراب كبير، والتمزّقات حاصلة، والعفن ضاربٌ في أمور شتّى في البلد وناسه.
التواضع منكشفٌ في لائحة الأفلام المختارة للدورة الـ7، في مسابقاتها الروائية الطويلة والوثائقية والقصيرة، ومتمثّل بقلّة عددها، وبتاريخ إنتاجها (2019 ـ 2021). التواضع يعني أنّ المهرجان غير معنيّ ببهرجةٍ واستعراضٍ وأضواءٍ، بل بسينما تقول شيئاً مفيداً، يحثّ المشاهدين على تفكيرٍ وتأمّل وتساؤل. هذا دأبه منذ البداية، وتثبيت مكانته في مدينة السينما سابقاً فعلٌ ثقافي ـ اجتماعي، رغم أنّ صعوباتٍ تحول دون اتّساع مساحته الشعبية، في المدينة المُصابة بأعطابٍ كثيرة، قبل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وتفشّي كورونا. فالمدينة مهمّشة، وأثرياؤها منفضّون عنها، والانتخابات النيابية والبلدية وحدها تجعلهم يظهرون في بعض شوارعها، ويلتقون بعض ناسها.
في الدورة الـ7 هذه، عناوين عدّة مُشاركة في مسابقتي الأفلام الروائية الطويلة والوثائقية. أفلامٌ معروضةٌ هنا وهناك. هذا تفصيل بالنسبة إلى مهرجان يحرص، دورةً تلو أخرى، على بلورة حضور السينما في مدينةٍ، لها مع الفنّ السابع حكايات وتاريخ. بعض الأفلام المختارة يتناول مسائل معنيّة بهموم المواطن وأحواله وانفعالاته، في زمن انقلابات مريرة، وعنفٍ متسلّط، وتمزّقات قاتلة؛ وتتوزّع على الجغرفيا العربية، ما يعني أنّ المهرجان راغبٌ في إيجاد مساحة أكبر من المدينة والبلد، في المدينة أولاً وأساساً.
من تلك الأفلام الروائية، هناك معاينة لمجتمعات مضطربة ومتوترة وصاخبة بغضبٍ وغليان وتسلّط وانعدام أفق وغياب ضوء.
قصّة الحب في "غزة مونامور" (2020)، للأخوين الفلسطينيين طرزان وعرب ناصر، مفتوحة على تفاصيل دقيقة، بعضها هامشيّ، في بيئة ضيقة تعاني حصاراً وتسلّطاً واختناقاً، وهذا كلّه مُلتَقَطٌ بحساسية سينمائية تمنح الشخصيات وبيئتها حيوية واقعية ومصداقية شفّافة. حصارٌ من نوع آخر، يُضاف إليه التسلّط والاختناق، مع كمٍّ من العنف والقسوة المبطّنين حيناً والمكشوفَين حيناً آخر، سمات خاصة بـ"شارع حيفا" (2019) للعراقي مهند حيال، الذي يروي لحظات من حياة قنّاصٍ، ولحظات من حياة شارع وأناسٍ وعلاقاتٍ ومشاعر وذكريات. عنفٌ داخلي، يعتمل في ذاتٍ وروحٍ، يؤسِّس حكاية موسيقيّ غارقٍ في بؤسٍ وتدميرٍ وهذيانٍ وانكسارات، كما يرويها "ميلوديا المورفين" (2020) للمغربي هشام أمال. بينما "طلامس" (2019)، للتونسي علاء الدين سليم، يمزج الفانتازيا واللامعقول بواقعية حادّة، تجعل جندياً هارباً يعيش اختبار تحوّل جسدي نفسي روحي، قبل لقائه امرأة هاربة من ضيق حياة زوجية (في الفيلم ما هو أعمق بكثيرٍ من هذا الاختزال الوصفي). أما روي عريضة، فرغم اختياره البحر فضاء مفتوحاً على احتمالات خلاصٍ وتحرّر وانطلاق، يتمكّن من جعله حيزاً لتعرية روحٍ وذاتٍ، في مواجهتهما اختناق مدينة وعيش، وهذا كلّه في "تحت السماوات والأرض" (2020).
للوثائقيات حضورٌ، وهذا بعضها: "بيروت المحطة الأخيرة" (2019) للّبناني إيلي كمال يستعيد تاريخاً طويلاً لبلدٍ (لبنان) مضطرب دائماً، سارداً فيه متغيرات وصدامات ونزاعات وانهيارات وخيبات واحتلالات، بقراءته سيرة السكك الحديدية، المتوقّفة عن العمل منذ سنين مديدة. السكك الحديدية موجودة أيضاً في "عالسكّة" (2018) للتونسية أريج السحيري، من خلال عاملين فيها يعانون ظروفاً صعبة في العمل، فتنكشف أحوال مهنةٍ ومؤسّسة وفسادٍ ونهبٍ، وإنْ على حساب أفرادٍ يجهدون في عملهم من أجل عيشٍ ما. أما الأردنية دينا ناصر (أرواح صغيرة)، فتدخل مخيم الزعتري للاجئين، لالتقاط نبض حياة أطفال سوريين، يُقيمون فيه منذ عام 2012.
هذه الوثائقيات تكشف بدورها شيئاً من اختناق وحصار وتسلّط وعنفٍ، متأتية كلّها من أحوال بيئات اجتماعية وسياسية واقتصادية منهارة، فساداً وتمزّقاتٍ وخراباً، تُسبِّبها حروبٌ تختلف أشكالها من بيئة إلى أخرى. فالحرب العسكرية في سورية تصنع مخيمات للاجئين سوريين في دول قريبة؛ والفساد والنهب عاملان أساسيان في حربٍ خفية ضد بلد وذاكرة وتاريخ وأناس.
العالم غير مستقيمٍ في منح سُبل عيشٍ أفضل، والجغرافيا العربية تتخبّط في أهوال وانهيارات ومصائب، والسينما المنبثقة منها تعكس شيئاً طفيفاً ومهمّاً وقاسياً من تلك الحالات.