"للأطفال طاقة محاولة التغلّب على كلّ ما يحدث معهم، والمضي قُدماً، دائماً". تقول الفرنسية فلورنس مِيْاي في حوار إذاعي مع أوليفييه جاسْبِر (إذاعة "فرانس كولتور" الثقافية الفرنسية، في حلقة من برنامج "الطاولة الثقافية الكبرى"، 27 سبتمبر/أيلول 2021)، قبل يومين على بدء العروض التجارية الفرنسية لجديدها، "العبور (La Traversee)".
جملةٌ واحدة كافية لاختزال نصٍّ بصري، مشغول بتقنية التحريك. جملة تقول فيلماً، من دون أنْ تحول دون متابعة هادئة لحكاية القهر والتشتّت والهجرات، والبحث الدائم عن ملاذ وخلاصٍ. والحكاية، إذْ تُركِّز على فتاة وشقيقها في رحلة الهروب من الموت، تكشف سمات مشتركة بين أناسٍ كثيرين، يُجبرون على اختيار دروبٍ جمّة، لبلوغ ما يظنّون أنّه سيكون نفاداً لهم من موتٍ وتعذيبٍ وتنكيل وإذلال ومهانة وقمع. "ويكيبيديا الفرنسية" تذكر، في صفحتها عنه (إنتاج مشترك بين فرنسا وألمانيا وجمهورية التشيك، 2021)، أنّ الشخصيات المخترعة في رسوم مِيْاي "يُمكن أنْ تكون يهودية أو أفغانية أو سورية أو من مالي". هذا يُسقِط عنه انحيازاً إلى بيئة أو جماعة أو بلدٍ أو شعب أو هوية. هذا يجعل "المعبر" مفتوحاً أمام أناسٍ يعانون مصائب مشتركة، بسبب حكمٍ قاهِرٍ أو سلطة قاتلة (وأنواع القتل كثيرة ومختلفة) أو حروب وانهياراتٍ ومآسٍ.
لا تحديد لهوية أو جنسية في "المعبر". هذا أساسيّ. الموروث الثقافي والاجتماعي والبيولوجي لفلورنس مِيْاي مُفيدٌ، لكنّه غير طاغٍ. أسلافها يهودٌ أوكرانيون، يُعانون أهوال المذابح والمنافي، مطلع القرن الـ20. أهلها يفرّون من النازيين، فيلجؤون إلى "المنطقة الحرّة" في فرنسا (المُحرّرة بعد اتفاق الهدنة، 22 يونيو/حزيران 1940). لكنّ هذا كلّه غير حاضرٍ. إخراج الأمكنة والزمن والشخصيات من تحديدات واضحة يُسهِّل التعامل مع نصٍّ (سيناريو ماري ديبلُشان ومِيْاي، والأخيرة تتولّى أيضاً أعمال الغرافيك) ورسومٍ وألوان (يكاد الغامق والمُعتم فيها يغلب المُضيء)، تروي كلّها سيرة كيونا (صوتا إيميلي لان دورّ في صغرها، ومِيْاي نفسها في مراهقتها) وأدريال (مكسيم بيرييرا)، المنفصِلَين قسراً عن والديهما وإخوتهما، والمُشرَّدين في أماكن شتّى، بحثاً عن العائلة المفقودة، ورغبة في استعادة هناء وسلام وطمأنينة.
بلدة ريفية متواضعة تتعرّض لبطش سلطة عسكرية. تنكيل وطرد وقتل، ثم هروب عائلة كيونا وأدريال، قبل انفصال الأخيرين عنها. رحلتهما مليئة بمصاعب وتحدّيات ومخاطر. الرحلة تُسرف في قسوة الحياة وألم الواقع ووفرة الخيبات والقهر، وتهدف إلى نجاة مطلوبة ولقاء منتظر. سجون ومعتقلات؛ بيع أطفال؛ غجر يتجوّلون، كعادتهم، في أصقاع مختلفة، ويتعرّضون ـ كعادتهم أيضاً ـ لأصنافٍ مختلفة من الإدلال والقهر والتعدّي؛ مواجهات مع عسكرٍ وبائعي بشر؛ تجربة تبنٍّ تؤدّي إلى صدام بين كيونا والزوجين الأرستقراطيين، ثم فرار آخر؛ غابةٌ لها سحر وغموض وجاذبية اختباء؛ رسوم تملأ دفتراً يُرافق كيونا في اختباراتها الكثيرة والمتناقضة؛ امرأة ذات أصلٍ هنديّ أحمر، كما تدلّ بعض ملامحها. هذا بعض ما يُقدّمه "المعبر"، في سردٍ يُروى بلسان راوٍ وراوية، يبدو أنّهما لن يكونا إلاّ كيونا وأدريال.
كثرة الكلام الذي يقوله الراوي والراوية نافرةٌ في فيلمٍ مُشبع بالصُور والرسومات، رغم أنّ مدّة "المعبر" 80 دقيقة (أول عرض دولي له حاصلٌ في الدورة الـ45 لـ"المهرجان الدولي لأفلام التحريك في آنُّسي"، المُقامة بين 14 و19 يونيو/ حزيران 2021). القسوة كافيةٌ لقولٍ صامت، والعذابات قادرةٌ على تعبيرٍ يتفوّق، ببراعة بوحه، على جُمل وتعابير شفهية، مع أنّ النصّ يسرد حكايةً مُكرّرة في أزمنة راهنة، تمتلئ بتهجير وحروب وفقر وعنف وبشاعة في أكثر من جغرافيا. الرسوم قاسية بدورها، إذْ يعكس معظمها حجم الأهوال التي يعيشها ولدان، يخطوان خطوات أولى في مُراهقةٍ مؤجّلة.
أما التعليق النقدي في المجلة الأسبوعية الفرنسية "تيليراما" (2 ـ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2021)، فيُكمِل قول فلورنس مِيْاي في الحوار الإذاعي: "إنّها ملحمة مؤثّرة عن أطفالٍ مهاجرين، كأنّهم يخرجون من لوحة لشاغال".