في تقرير مطول، تجاوز 3 آلاف كلمة، واحتل غلافها، ذهبت يومية "إنفورماسيون" الدنماركية، أول من أمس الثلاثاء، إلى فتح ملف "معاداة السامية" في الصحافة والحياة الأكاديمية الغربية، من زاوية "خنق حرية التفكير والتعبير"، ومحاولات جعل انتقاد دولة الاحتلال مساويا لـ"معاداة السامية".
غاصت "إنفورماسيون" في الموضوع انطلاقا من قصة صحافي "ذا غارديان" البريطانية في نسختها الأميركية، ناثان روبنسون، الذي طرد من عمله بعد تغريده في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن الدعم الأميركي لدولة الاحتلال. وهو ما يرى فيه روبنسون "تطبيقا عمليا لأبشع أنواع الرقابة غير المرئية". فالتغريدة التي أثارت سجالا كانت بصيغة سؤال ساخر: "هل تعلم أن الكونغرس غير مسموح له بالموافقة على الاتفاق الجديد (حول حزمة مساعدات كورونا في داخل الولايات المتحدة و500 مليون دولار دعما لجيش الاحتلال)، ما لم يذهب جزء مباشر منها لشراء أسلحة لإسرائيل؟ في الواقع هذا ليس قانونا، لكنه متأصل بعمق في السياسة الأميركية لدرجة أنه أصبح كذلك من الناحية العملية".
تهمة "معاداة السامية" متأصلة كلما جرى انتقاد إسرائيل
قصة الصحافي ناثان روبنسون بالنسبة لـ"إنفورماسيون" تشكل نموذجاً لإساءة استخدام شعار "معاداة السامية"، وأثرها على حرية التفكير والرأي. فنتيجة للتغريدة تلقى الكاتب رسالة "خاص وسري" من رئيس تحرير "ذا غارديان يو إس" جون مولهولاند تبلغه بأنه مطرود من عمله، رغم شطبه التغريدة والاعتذار عنها.
"إنفورماسيون" تناولت "معاداة السامية" على أساس سؤال عن تصنيف المواقف المنتقدة لإسرائيل على أنها "معادية للسامية"، وباعتبار أن "قضية اتهام روبنسون لم تجذب تغطيات الصحافة الأميركية فجريمته معاداة السامية، لأنه سخر من الدعم المالي الأميركي لإسرائيل". ورأت الصحيفة الدنماركية أن اتهام معاداة السامية "متأصل كلما جرى انتقاد إسرائيل، وهذه مشكلة تفقد الناس القدرة على محاسبة الحكومات القوية على أفعالها، فروبنسون بنفسه يرى أن القصة مثال لحملة منهجية، وناجحة إلى حد كبير، لإزالة الخط الفاصل بين انتقاد الحكومات الإسرائيلية وخطاب الكراهية في معاداة السامية".
عثرة ونشر لثقافة الإلغاء
"إنفورماسيون" تناولت التهمة باعتبارها "ثقافة إلغاء خطيرة في الجدل حول فلسطين وإسرائيل، ويعتقد روبنسون أن خطر وصفك بـ(معاداة السامية) يتربص في الظل ويقف في طريق النقاش الحر والمستنير". تلك الخطورة على حرية النقاش والتعبير استحضرتها الصحيفة محليا أيضا "فخلال الأسبوع الماضي سافرت (رئيسة الحكومة) ميتا فريدركسن إلى إسرائيل، وبسبب الانتقادات التي وجهت إليها ولسياسة اللقاح التي تستثني الفلسطينيين، خرج القيادي في حزب التحالف الليبرالي (يمين وسط) هنريك دال، الذي عادة ما يكون مندفعا لنقد ثقافة الإلغاء، لاعتبار انتقاد الاحتلال (معاداة للسامية) والمنتقدين بأنهم يسار متطرف".
وعرّجت الصحيفة على تناقض الغرب بسؤال السياسي هنريك دال: "هل الدعوة لمقاطعة البضائع الصينية بسبب ممارساتها بحق الإيغور هو أيضا معاداة للصينية؟". ورغم هروبه من السؤال، مضت "إنفورماسيون" في تقريرها المطول تحاول كشف ما يجري في الكواليس السياسية والإعلامية والأكاديمية في الغرب. ورأت أن "ثقافة الإلغاء" باتت تنتشر بسبب شعارات "معاداة السامية" وبوصفها تعبيرا عن "متطرفين يساريين" و"منكري المحرقة".
في السياق، ربط التقرير بين قصة "معاداة السامية" و"إضفاء صفة قانونية عليها". على سبيل المثال، أطلق الموسيقار بريان إينو وعدد من الفنانين الآخرين في ألمانيا على هذه المحاولات صفة مكارثية جديدة في الحياة الثقافية الألمانية، حيث تعتبر الدولة الألمانية الآن رسميًا أنه "من (معاداة السامية) الدعوة إلى إجراءات المقاطعة ضد إسرائيل".
حملة منهجية لإزالة الخط الفاصل بين انتقاد الحكومات الإسرائيلية ومعاداة السامية
واستعرضت في الاتجاه ذاته كيف أن المفكر اليهودي المعادي للصهيونية ولدولة الاحتلال نورمان فينكلشتاين "دائما ما رُفع كارت المحرقة (الهولوكوست) بوجهه، رغم أن والداه كانا معتقلين في المعسكرات النازية". ويذكر فينكلشتاين لصحيفة "إنفورماسيون" أن هذا الاتجاه "يقتل النقاش، ويسكت النقاد، ويترك للحكومة الإسرائيلية شكلا من أشكال الحصانة غير الصحية في النقاش العام".
تلك الحصانة رآها روبنسون، المطرود من عمله، أمرا خطيرا "فكل نقاش ينتهي بأنك معاد للسامية يصبح كدرع تستخدمه إسرائيل ضد الانتقاد". وهذا الاتهام بقصد إسكات الأصوات تقول عنه الصحيفة إنه "أمر يعرفه وزير الخارجية الدنماركي الاشتراكي ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبق موينز لوكاتوفت، فمنذ عقود وهو ينتقد سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين. وهو يعرف ما يقوله روبنسون عن الدرع بوجه الانتقادات، ويذكر أن اليمين المؤيد لإسرائيل كان دائما يصرخ بوجه منتقديها أننا معادون للسامية". وأشارت الصحيفة إلى أن لوكاتوفت، وأثناء ترؤسه الجمعية العامة في 2016، تحدث في مؤتمر عن أهمية مكافحة الكراهية والتحيز ضد اليهود، لكنه قال أيضا إنه "يجب أن نكون حذرين ودقيقين للغاية بشأن ما هو معاد للسامية وغير معاد لها، فليست معادية لها المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والمطالبة بوقف قمع الشعب الفلسطيني". موينز لوكاتوفت، ورغم أنه ليس عضواً في "بي دي إس" (حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبة على الاحتلال)، يرى أن "هناك قلبا للحقائق حين تعتبر بلدا مثل ألمانيا أن المقاطعة تساوي معاداة السامية". وبرأي لوكاتوفت فإن "ذلك يعطل إلى حد كبير النقاش، فيجب ببساطة أن يكون ممكنا انتقاد إسرائيل ومحاربة معاملتها للفلسطينيين دون أن يوصف الناس بمعاداة السامية".
محاربة بلقمة العيش
أستاذ العلوم السياسية، وصديق نعوم تشومسكي، نورمان فينكلشتاين، رأى أيضا في حديثه لـ"إنفورماسيون"، أن تهمة معاداة السامية، التي طرد بسببها بنفسه من جامعة ديبول في شيكاغو، لانتقاده إسرائيل منذ 2007، مثلما جرى مع الصحافي روبنسون أخيرا، "تهمة سخيفة، وبلكنة سكان بروكلين، مثل بيرني ساندرز ولاري ديفيد، يكرر الرجل مرارا عبر الهاتف: هذه التغريدات معادية للسامية مثلما هي هذه البرتقالة على منضدتي معادية للسامية، هذا نقاش سخيف، فبحق السماء هل تتخيلون أن رئيس تحرير محتال مثل مولهولاند (غارديان الأميركية) غاضب حقا من التغريدة ويجدها معادية للسامية؟ هذا محض استخفاف بالعقول، فهو وصحيفة الغارديان خائفون من التهمة ليس إلا".
اتساع ظاهرة الطرد بسبب تهمة معاداة السامية واتهام منتقدي دولة الاحتلال باليسارية المتطرفة
ولا يشك فينكلشتاين في أن خوف إدارة الغارديان من تهمة "معاداة السامية" هو الذي جعلها تطرد أحد كتابها، ويرى أيضا أن الجهود متواصلة لجعل المزيد من التصريحات والمواقف "تصنف وفق ذلك التصنيف المثير للسخرية، ومن خلال حماية إسرائيل من الانتقاد، ومنحها شكلا من أشكال الحصانة في النقاش العام، مكّنوا أيضًا الحكومة الإسرائيلية من التصرف بشكل أكثر جنونًا. وبينما يتصرفون بجنون أكثر، تتزايد الكراهية لإسرائيل واليهود". وما يلفت في تقرير "إنفورماسيون" الإشارة، من قبل البعض في المستوى الأكاديمي والصحافي الأميركي والأوروبي، إلى "اتساع ظاهرة الطرد بسبب تهمة معاداة السامية واتهام منتقدي دولة الاحتلال الإسرائيلي باليسارية المتطرفة، رغم وجود إسرائيليين، ومن بينهم منظمة بتسليم الحقوقية، التي تنتقد بالطريقة نفسها، وذهبت في تقرير أخير إلى عنوان: هذا نظام أبرتهايد".
ومحاربة الناس بلقمة عيشها لإسكاتها أمر يعيشه نورمان فينكلشتاين بنفسه "فأنا مرتبط بشكل فضفاض بالتدريس في كلية بروكلين، لكن ما أكسبه قليل جدا، يمكنك القول إنه عمل تطوعي تقريبا، حيث أنا مستبعد بشكل تام من التعيين في مناصب دائمة".
وختمت الصحيفة، نقلا عن فينكلشتاين، أن "الجامعات الأميركية تعيش اليوم ثقافة الإلغاء، ولا أحب أن أرى الآخرين يتعرضون لما تعرضت له، حيث يموت النقاش الحر تصبح الحقائق الحية عقائد ميتة، كما كتب جون ستيوارت ميل".