كورونا وترامب ومقتل جورج فلويد.. كل هذه الأحداث تركت أميركا على صفيح من نار. كثيرون يقولون إن هناك حرباً أهلية على الأبواب. التوتر المتصاعد والصدامات وفقدان الثقة بالحكومة وزيادة التسلح، كلها تهدد استقرار الولايات المتحدة، وربما العالم. وفي هذه الظرف، يظهر أمامنا على نتفليكس فيلم "محاكمة السبعة من شيكاغو" (The Trial of the Chicago 7)، الذي يستعيد المواجهات التي حصلت في مدينة شيكاغو في الستينيات ضد الحرب على فيتنام التي استنزفت الشباب الأميركي، وزادت من زخم حركة الهيبيز.
يحدثنا الفيلم عن المحكمة السياسية التي أقيمت للشبان السبعة الذين اتهمتهم الحكومة الفيدرالية بتنظيم أعمال شغب على مستوى المدينة بأكملها، ومحاولة مهاجمة المؤتمر الديمقراطي لعام 1968، بناءً على قانون عنصري قديم، إذ نشاهد كيف اخترقتهم الاستخبارات الأميركيّة بأطيافها المتعددة من أجل التلاعب بهم، وفي ذات الوقت جمع الأدلة ضدهم، وتحويلهم إلى كبش فداء سياسي، أمر به نيكسون للوقوف بوجه حركة الهيبي والثقافة المضادة.
يكشف الفيلم، بعمق، عن فساد المؤسسة السياسية والقضائية، وكيفية تلفيق التهم لاستعراض المتهمين وتأكيد صرامة الدولة والانتصار للشرطة الذين جرحوا المئات يومها لتركهم عبرة للآخرين. في ذات الوقت، يشير إلى قوة التنظيم الشعبي السلمي، وكيفية العمل على إنتاج الثورة في أميركا الديمقراطية، تلك التي ينتصر فيها القانون، لكن للبيض فقط، إذ يساق أحد المتهمين ظلماً فقط بسبب لونه وانتمائه إلى الفهود السود، من دون أن يكون له أي دخل بأعمال الشغب، بل وضع بين المتهمين لتأديب الفهود وإذلالهم ودفعهم نحو العنف.
نكتشف على طول الفيلم تحول جهاز الشرطة إلى أداة سياسيّة، تعمل على مستويين: الأذى الجسدي ضد المتظاهرين، وعقاب أولئك المتهمين زوراً، الذين استفادوا من علنية تظاهرهم والمحكمة العلنية كي يحولوها إلى مسرحية ساخرة، ذات وظيفة سياسيّة، تراهن على الروح الأميركية القائمة على حرية التعبير والتظاهر، لا على الصرامة والجدية المؤسساتيّة.
يراهن الفيلم على تلك المسافة بين المؤسسة الديمقراطية والإدارة السياسية، وكأنه يرسم خطة للتغيير الحالي، مهما فسدت الإدارة السياسية، لكن يجب عدم فقدان الثقة بالمؤسسات، تلك التي إن أخطأت لا بد لها أن تصلح خطأها ولو بعد حين، وكأنه يرسم الحد الفاصل بين الاحتجاج السلمي والشغب الذي قد يؤدي إلى مواجهة دمويّة، ويوجه اللوم بوضوح إلى جهاز الشرطة، ذاك الذي لا يتحكم فقط بأصوات الأفراد في الشارع، بل يضبط تدفقهم ومنعهم من ممارسة حقوقهم. بصورة أدق، يشجّ رؤوس الناس لأجل أفكارهم لا تصرفاتهم.
هناك رسالة سياسية رومانسيّة في الفيلم تخاطب الجمهور: أميركا الغاضبة التي على وشك الانفجار، تستعيد لحظات مجدها الديمقراطي في الستينيات، وأثر الضغط الشعبي على الحكومة، ذاك الذي لم يصل إلى حد حمل السلاح مباشرة. في ذات الوقت، هناك أيضاً الانتصار للثقافة البديلة تلك التي كان يمثلها الهيبيون، والتشديد على الثورة الثقافية ودورها في التغيير، من دون فقدان الثقة بالعملية الديمقراطية نفسها. وكأن هناك إيماناً بالنظام وضرورته، حتى لو كان فاسداً، لأن دونه النتائج غير محسوبة. بالعودة إلى مفهوم المحاكمة، يكشف الفيلم عن السلطة التعسفية للقضاء، وأحياناً اتباعه أهواء القاضي، ذاك الذي من الواضح أنه لا يمتلك الأهلية الكافيّة.
ففي الفيلم، وبناءً على الشخصية الحقيقية، هو مزاجيّ، عنصريّ ومحكوم بأوامر سياسيّة، هذه اللاثقة بالمؤسسة القضائيّة لم تتحول إلى احتجاج مسلح أو أعمال شغب، بل استهدفت مفهوم المحكمة نفسها وفضائها لتحولها إلى مساحة سياسيّة، وهذا ما حصل في النهاية حين حُكم على السبعة بأنهم مذنبون، كان البيان الختامي لهم قراءة أسماء 5000 جندي أميركي ممن سقطوا في فيتنام.
الفيلم ليس وثائقياً، بل يستند في ترتيبه وتدفقه إلى أحداث واقعيّة. وهنا يشير النقاد إلى نظام المسرحة الذي اعتمده الفيلم، ومستويات الحكاية فيه، تلك التي توظف سياسياً وكأنها عن "الجميع"؛ أي كل من جرح وضرب يومها، لا عن هؤلاء السبعة فقط، بل عما يحملونه من أفكار. لكن، من جهة أخرى، هذا الفيلم موجه إلى أميركا، نحن المشاهدين من الخارج، لا نمتلك ذات الثقة بالمؤسسات، لكونها خاضعة كليّاً لـ"الحكومة"، بل يبدو الموضوع ساخراً لمن يعيش في بلد قمعي كمصر أو سورية، حيث المؤسسات أجهزة هيمنة بيد السلطة التي تقسم وتفرز الناس وتعاقبهم على المستوى الفردي والجماعي، ومواجهتها سلمياً كما حدث في بعض الدول العربية كانت نتائجها دمويّة، لا يمكن أن تستعاد الثقة بعدها بالمؤسسات.