عند الزيارة والاستماع، يبدو للوهلة الأولى، كما لو أن كل ما يُقدّمه المهرجان البرليني، "مارس للموسيقى" (MaerzMuzik) لزائريه، لا يمت للموسيقى بصلة. أو بتعبير آخر، تتناهى الأصوات الصادرة عن الآلات المتنوعة بين أيدي الفنانين المشاركين، سواءً أكانت تقليدية، كالتشيلو والكلارينيت، أو إلكترونية، كما لو أنها تبعث برسالة صوتية إلى الضيوف المستمعين، مُضادة لكل ما هو موسيقي.
أسنان مشط تلتحم بخصال شعر أجعد كثيف، يلتقطها ميكروفون حساس، يصل صوتها بمكبرات عملاقة، تبثّها حفيفاً مُريباً يجوب أرجاء قاعة متحف غروبيوس، وسط العاصمة الألمانية. أو أفواه تعترضها إما الكمامات الطبية، أو أجساد المؤدين الآخرين، تُصدر همهمة مكتومة، أو أنيناً يأسر الآذان ويُسمّر الأبدان، لنحو ساعة من الزمن.
في واقع الأمر، تلك هي بالضبط رسالة المهرجان، أو الغاية منه؛ توثيق ذلك التوسّع المستمر والمُطرد لمعنى الموسيقى ودورها في الثقافة والمجتمع، من دون الخوف من الخروج عن أي مألوف، لا بل جعل تقويض المألوف بحد ذاته وبمؤسساته الفكرية والجمالية، هدفاً ومهمة.
كون أن "مارس موزيك" يقام سنوياً في برلين، إنما يصل أيضاً تلك السيرورة التاريخية، التي أدت بالفكر الغربي إلى المقاربة التفكيكية للموسيقى، والفن عموماً، والتي نشهدها في كل من المعنى والممارسة، منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم.
فالمقولة التي أطلقها الفيلسوف الألماني، تيودور أدورنو، عقب الحرب العالمية الثانية: "لا شعر يُنظم بعد أوشفيتس" في إشارة إلى الهولوكوست الذي ارتكبه النازيون، قد حدت بالأوساط الفكرية والثقافية المناهضة للرجعية التقليدية في أوروبا، إلى الإجماع حول أن الفظاعات التي شهدها الغرب، لا بد وأن تؤدي في المحصلة الحضارية إلى نبذ الصيغ الجمالية التي عرفتها الإنسانية منذ عصر النهضة، مُطلقةً مسعىً جديداً في البحث عن معنى مختلف، أو جدوى أخرى للفن، خارج الفن. من هنا، تُسمع صلابة الفكر وضراوة السياسة في قاعات العرض، ومن مكبرات الصوت، أكثر من حلاوة الانسجامات بين الأنغام.
الوقت هو أحد الموضوعات الرئيسية. مرةً أخرى، ليس عبر اختزاله إلى الزمن الموسيقي من إيقاعات وسكتات، وإنما بتوسيعه خارج حدود الوظيفة الجمالية، ليعبر نحو المجال النظري الفلسفي والتطبيقي السياسي. لا يبدو هذا خارج السياق الحقبوي، إذ إن مسألة الوقت لطالما حظيت بعناية خاصة من قبل المُنظّرين والفنانين، وذلك عند كل انعطافة تاريخية ومفصل حضاري. فكما دفعت الثورة الصناعية المتأخرة، أول القرن الماضي، والطفرة التكنولوجية في مجالات الاتصالات والمواصلات بمفكرين وفنانين، كـ بيرغسون وديبوسي، إلى التأمل في ماهية الوقت تحت وطأة التسارع التكنولوجي المستجد حينئذ، حريّ إذاً بحقبة الإنترنت وحداثة ما بعد الصناعة، أن تبحث لها بدورها عن مفهوم للوقت، يستجيب لمتطلبات العصر.
من هكذا منطلق، أدار "مارس موزيك" لهذا العام ورشة عمل خاصة لنقاش ظاهرة الوقت، تحت عنوان "لنفكّر معاً" (Thinking Together)، من خلال حوارات وقراءات ومحاضرات تجمع ما بين النظري والأدائي، تمحورت جميعاً حول الجانب المادي للفكر الإنساني؛ كيف تتشارك الأجساد والحواس في الفضاء الوجودي. ومن ثم بحث السبل الفنية، الأدائية والصوتية، بغية عكس الزمن الراهن، بإرهاصاته وإشكالاته؛ كيف يؤثر ويتأثر بنا، كما يؤثر ويتأثر بالمكان.
بعض العروض، بدت كما لو أنها تُقدم رؤى نقدية لصيغ موسيقية تقليدية، أو لعلها تحاول سبر آفاق تقدمية قد تكون كامنة بها. ذلك ما توحي به اللوحة الأدائية التي صممتها الفنانة المشتغلة بمجال الصوتيات، البلجيكية ميريام فان إيمشوت (Myriam Van Imschoot). تحت عنوان New Polyphonies، تُعاين إيمشوت تقنية "تعدد الأصوات" (Polyphony) في التأليف الموسيقي الكلاسيكي، والتي كانت سائدة خلال القرنين السادس والسابع عشر، والتي لا تقوم على تسيّد لحنٍ فوق حاشية مرافقة من ائتلافات نغمية مرافقة، وإنما على تقابلٍ تفاعليٍ منسجم بين الأنغام، يمنح كل منها بصورة عادلة كل من مواقع التأثير ومواطن القوة.
باستلهام آليات المسرح التفاعلي، ومبدأ سقوط الجدار الرابع، يبدأ المؤدون عرضهم انطلاقاً من مقاعد الجمهور. يرتدون الكمامات بحكم قواعد ارتياد العروض زمن كوفيد-19، موصولين إلى لواقط صوتية، يهمّون بإصدار أصوات تجريدية، بينما يحرّكون أذرعهم بصورة منسّقة ومتواترة، كما لو أنهم يشاركون في مظاهرة، قبل أن يتوجهوا نحو خشبة المسرح، ليتابعوا باقي فقرات اللوحة.
هنا، تتخذ صيغة الكتابة الموسيقية لها طابعاً اجتماعياً - سياسياً؛ سواءً أكان المتلقي، المؤدي، الصوت، أو الإشارة الجسدية، بالإضافة إلى مكبرات صوت المنتشرة والمشاركة بصفة أدائية مبتكرة، كل من في القاعة يؤلف عناصر متقابلة، متعارضة أو متتامة، ضمن مؤلف حيّ متعدد الأصوات، أو المفردات. عندها، يُقدَّم النظام البوليفوني إلى المشاهد مُمثلاً تعبيرياً عن النظام الديمقراطي، بصورته المثلى، لناحية الإشراكية (Inclusivity) في التمثيل السياسي.
إشراكية لم تقتصر على الرؤى والمحتوى، وإنما تجاوزتها إلى شكل الطاقم التنظيمي؛ إذ شاركت فريق المُنظمين لهذا العام، الكاتبة الصحافية المصرية في المجال الموسيقي، كاميليا متولي، لا لتكون ممثلة عن مصر وحسب، التي تتقاطع على أرضها عدة مدارات جيوثقافية، والأفريقي، والعربي والمتوسطي، وإنما لتُمثل أيضاً المظهر الكوزموبوليتي الذي تسعى العاصمة الألمانية إلى إبرازه أمام أوروبا وسائر العالم. تُقيم متولي بين القاهرة وبرلين. كما تنشط بذات الزخم في كل من المشهدين الثقافيين القاهري والبرليني. من خلال منشورات أصدرتها، ومشاريع أقامتها بالتعاون مع فضاءات فنية رائدة، بدت الكاتبة المصرية الشابة كمن يُحسن أصر العلاقات بين شمال العالم وجنوبه، وبين شرقه وغربه.
في حوار أدلت به لموقع Xberliner، تتحدث متولي عن رؤيتها حيال الوقت، أحد موضوعات المهرجان الرئيسة قائلة: "من الأمور المثيرة للاهتمام بالنسبة لي، هو فكرة الوقت والمقاومة الاجتماعية، أو فضاءات الاحتجاج، خصوصاً أن الوباء العالمي كان قد عزز فكرة كتلك، لأنه بات لزاماً علينا أن نتساءل حول ما سيحدث، حين لا نعود مُقيّدين بوقت محدد، أو وتائر معينة للعيش؛ أين نود أن نكون، وكيف لنا أن نُكمل طريقنا؛ تلك أسئلة لا تتعلق بمسألة استمرارية عمياء، وإنما المُضي نحو إمكانية أن نكون أكثر هشاشة وانكشافاً إزاء الآخرين، ومن ثم فرض التحديات أمام أنفسنا".ط
أدارت التظاهرة في دورتها هذه ورشة خاصة لنقاش ظاهرة الوقت
هكذا، وإن كان بموسيقى خارج الموسيقى، لا يتفادى "مارس موزيك" إبداء الحساسية تجاه اللحظة الراهنة. ليس بالانسجامات والألحان، وإنما بالأصوات المجردة وتطبيقاتها في المكان. كما أنه لا يتوانى عن رفع الشعارات السياسية المعبرة عن القضايا التي تهم مواطني العولمة ما بعد الصناعية، خصوصاً من بين أولئك الذين يعيشون وينشطون في العواصم الغربية ذات الهوى التقدمي، يرنون إلى قيم الحرية والمساواة. إضافة إلى قلقهم العميق إزاء مسألة التغيّر المناخي، والتي يلعب الوقت فيها دور حد السيف القاطع، في كل لحظة تمر، يزيد اقترابه من عنق البشرية.
إلا أن تلك النعومة السياسية، التي ظلت تتغنى بها المؤسسات الثقافية الرسمية والمدنية في الدول الغربية ذات الرخاء الاجتماعي والاقتصادي، والإرث الديمقراطي الليبرالي الممتد على مدى عقود خمسة ماضية، تبدو اليوم بمواجهة خشونة سياسية تُمارس في شرق القارة الأوروبية، ولا تبعد عن العاصمة برلين سوى ليلة أو اثنتين.
لم يتوان المهرجان عن رفع شعارات سياسية حول قضايا راهنة
جيوش جرارة، بمدرعات ثقيلة تقتحم مدناً آهلة، فيما تدكها المدافع بالقذائف وتقصفها الطائرات بالقنابل والصواريخ. عاصمة أوروبية الطابع والهوية الثقافية، بعمرانها ومسارحها وكنائسها، يُضرب حولها حصار على طراز الحروب النابوليونية إبان القرن التاسع عشر، لتنزح عن ديارها أفواج اللاجئين من نساء وشيوخ وأطفال.
وبينما كان "مارس موزيك" يختتم دورته لهذا العام، كانت الحكومة الألمانية تُعد العدة لحرب قد تكون طويلة مع روسيا، وقد تُهدّد إمدادت الطاقة إليها؛ شريان الحياة الصناعية فيها ومحرّك قوتها الاقتصادية ومصدر رخائها واسترخائها الاجتماعي والثقافي. هنا، لا بد وأن يتبادر سؤال إلى ذهن البشرية القلق حيال مسألة الوقت؛ ما الذي يمكن للنعومة السياسية فعله يا ترى، أمام تاريخٍ لا يبدو فيه ما بعد أوشفيتس، مختلفاً كثيراً عما قبله؟