"لا يوجد دببة" لجعفر بناهي: جريمة الإمساك بكاميرا

14 أكتوبر 2022
"لا يوجد دببة": عملٌ مُعقّد ومُكثّف ومحبوك (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

فاز الإيراني جعفر بناهي (1960) بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة"، في الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، عن فيلمه "السِرّي" الخامس، "لا يوجد دببة". إنجاز جديد يُحسب لمخرج أمضى، منذ عام 2010، وقتاً كثيراً في السجن، أو خارجه لكنْ رهن الإقامة الجبرية، بتُهم مُبالَغ فيها، كالتواطؤ على السلطة ومناهضتها، وتهديد الأمن القومي. كما مُنع من تحقيق الأفلام لمدة 20 عاماً، ومن السفر. رغم ذلك، لم يتخلّ بناهي أبداً عن حقّه في التعبير، وإنتاج أفلامٍ قصيرة وطويلة، هجينة وبسيطة وغير مُكلفة، جامعاً الروائي بالوثائقي، ببراعة ماكرة، لا تخلو من تعليقات سياسية مُبطّنة، وانتقادات اجتماعية لاذعة، تأمّل عبرها، بجرأة، في الحريات الشخصية والسياسية للفنان، وعادات المجتمع الإيراني وتقاليده وقِيَمه.

في 11 يوليو/تموز 2022، نشرت وسائل إعلامية إيرانية خبر إلقاء القبض على بناهي مُجدّداً. بعد 8 أيام (19/ 7/ 22)، أعلنت السلطة القضائية الإيرانية وجوب تنفيذه حُكماً بالسجن 6 أعوام، ربما سيُنفّذ. هذا جزءٌ من حملة قمع أوسع للسينما الإيرانية المُستقلّة، تصاعدت مع حكم الرئيس المُحافظ الحالي، إبراهيم رئيسي، ما أثار إدانة شديدة من المجتمع السينمائي العالمي. المنع والحرمان والتوقيف، المُتكرّرة كلّها في العقد الماضي، أضفت أبعاداً أخرى على أعمال بناهي، السياسية أساساً، والمُرتبطة أكثر بالحريات الشخصية، وباستقلال الفنان، مع تساهل كثير في المستوى الفني، والأداء والصدق والإقناع والتشويق، وغيرها من مقوّمات السينما، ومن كيفية صُنع الأفلام أصلاً، وتسريبها سرّاً إلى خارج إيران.

مُقارنةً بأعماله السابقة، مُتفاوتة المستويات، أكّد جعفر بناهي، في جديده (الذي ربما يكون الأخير لـ6 أعوام مقبلة)، على خصوبة خياله، وصدق موهبته، واحترافيّته. في "لا يوجد دببة"، مَزَجَ بمهارة بين الخاص والعام، والحقيقة والخيال، والذاتيّ والجمعي. كما طرح مشاكل عدّة، كالحدود المادية والروحية، والصراع بين التقاليد والحداثة، وأساساً، الاختلاف بين إيران الماضي والحاضر، والمدن والريف. هذا كلّه بشكلٍ أكثر فنّية وحِرَفية ودرامية وإقناعاً، مع احتشاد الفيلم بأفكار ومخاوف وانتقادات كثيرة، واتّهامات مُباشرة للمجتمع الإيراني وأفراده، قبل النظام السياسي، من دون افتعال، ومع ميل واضح إلى الذاتيّة، والتمحور حول كينونة المخرج.

الفيلم مصنوعٌ من دون أيّ إعلاء للذات، ومن دون ذرّة شفقة ومظلومية تجاهها. من هنا، كان النجاح في إخراج عمل مُعقّد ومُكثّف ومحبوك، روائياً وسردياً.

القصة بسيطة بشكل مُخادع، في البداية. ثم تتراكم طبقاتها المُعقّدة بشكل يتزايد بدرجاتٍ غير محسوسة، تقريباً. يُفتَتح "لا يوجد دببة" في شارع مزدحم في تركيا، مليء بالباعة المتجوّلين. تندفع زارا (مينا كافاني) خارجة من مقهى لمقابلة بختيار (بختيار بنجي). هناك مُحادثة هامسة حول وصول جواز سفرها الفرنسي المُزوّر، والمُشترى من مُهَرِّبين. لديها الآن هوية جديدة تسمح لها بمغادرة البلد في 3 أيام، وهذا يُشجِّعه بختيار، لكنّها ترفض المُغادرة من دونه. يحدث شيء مُفاجئ. نسمع كلمة "قطع". نُدرك أنّ صارخها مُساعد المخرج، رضا (رضا حيدري). هو الآن يتحدّث مُباشرة إلى الكاميرا مع جعفر بناهي، الجالس في مكان بعيد، يُعطي مُلاحظاته حول ما تمّ تصويره، قبل أنْ ينقطع الاتصال لرداءة الإنترنت.

تدريجياً، نتبيّن أن بناهي انتقل إلى قرية صغيرة على الحدود التركية، مُستأجراً مكاناً متواضعاً من جنبار (وحيد موباسيري). لا أحد في القرية يعرف سبب تواجد صاحب السُمعة المُلتبسة في منطقتهم، التقليدية العتيقة وشبه المهجورة، حيث لا مجال تقريباً إلاّ للمُهَرّبين بكافة أطيافهم، وتمضية يومه كلّه أمام جهاز الكمبيوتر، من دون أنْ يترك حجرته المُستأجرة. بدوره، يُبرز بناهي عاطفته المُعتادة، واحترامه للأعمال الطيبة والمُساعدات الصغيرة من الأفراد والجيران، بغضّ النظر عن مشاعر القرويين، فضولاً وخوفاً وشكوكاً حول وجوده الغامض بينهم.

تتعقّد الدراما، وتنقلب حياة بناهي والقرية بسبب الكاميرا والتصوير، إذْ تتعرّض إحدى فتيات القرية لضغط اجتماعيّ للزواج من رجل لا تُحبّه، فهي تُحبّ رجلاً آخر. بناهي مُتورّط في هذا، بعد اتّهامه بالتقاط صورة للفتاة والحبيب معاً، بقصد أو من دون قصد، ما يُثبت أنهما على تواصل. تبدأ المُضايقات من مُختار القرية (ناصر هاشمي)، والزوج المُستقبلي، وغيرهما من القرويين. عندها، يُركّز بناهي على العادات والخرافات في حياة القرية، ما يُوضح أنّهم يتصرّفون من منطلق مُعتقدات وتعسّف وقمع، وليس الحقّ. تؤكّد مُعاناة بناهي ومُكابداته عواقب التصوير، والتقاط صور ثابتة ومُتحرّكة، مهما كانت النيّة شريفة وبريئة. في النهاية، تُصبح القرية صورة مُصغّرة عن إيران، يُخاطر فيها الجميع استناداً إلى سلطة شديدة القسوة، أو بمشاركتها والتواطؤ معها.

 

 

في هذه التطوّرات، يلتقي رضا المخرج بناهي، بعد عدم تمكّنهما من التواصل عبر الإنترنت. يريد رضا مرافقة بناهي إلى الحدود القريبة جداً، كعمل استكشافي للفيلم وتصويره، كما يبدو. بوصولهما، يسأل بناهي: أين يقع الخط الحدودي بالضبط؟ يُشير رضا إلى الأرض تحتهما مُباشرة. يتراجع بناهي فزعاً، في كسر جلي للجدار الرابع، والتعبير عن المشاعر المُختلطة حول الهروب من البلد الأم، وفي رسالة قوية مُبطّنة، مفادها أنْ لا شيء أسهل من الهروب.

عودة إلى تركيا، حيث الأحداث على وشك الانفجار. بعيداً عن كونه عملاً خيالياً، يظهر الفيلم داخل الفيلم محض تسجيل حقيقي لهذه المرحلة المحورية من حياة الزوجين، بختيار وزارا، اللذين يُحاولان فعلياً الهروب إلى أوروبا بجوازَي سفر مُزوّرين. تنفجر زارا في صخب مُذهل أمام الكاميرا مُباشرة، صارخة وباكية بسبب الإحباط من تمضية 10 أعوام في مُحاولة الخروج من البلد، مُجبَرَة على خيانة نفسها والآخرين. تصبّ غضبها العارم على جعفر بناهي لاستغلاله موقفهما، وعدم مساعدتهما فعلياً.

في "لا يوجد دببة"، بناهي مُراقِب ومُحرّك محوريّ. يُصوِّر القرية وسكّانها من شرفة حُجرته. يا له من خبير في تحقيق أقصى استفادة من مواد بسيطة مُصوّرة، ونسج حكايات وعوالم منها، تُحيل بدورها إلى حيوات وأكوان تختصر بلداً ومُجتمعاً، بماضيهما وحاضرهما. في القلب، يحضر بناهي بنفسه. ولحضوره المركزي أهمية وثقل بالغان. كلّ شيءٍ يُرى من خلال عينيه. حقيقة أنّه يصنع فيلماً رغم الصعاب، تُصبح دائماً من عناصر الحبكة. وبناهي يسخر من حاله، مُقدّماً نفسه كشخصية مُتسلّطة إلى حدّ ما. يعتقد أنّه أفضل صديق للجميع، لكنّه لا يُدرك الإشكاليات التي يخلقها وجوده. ربما لا يكون مسؤولاً مُباشرة عن المُشكلة التي تُسبّبها كاميرته. لكنْ يبدو أن التصوير يحمل وزراً أخلاقياً، عليه دائماً أنْ يستعد لتحمّله. من هنا، ربما يُفهَم لماذا كاميرا بناهي تُشكّل استفزازاً للقرويين ولحيواتهم، وتصير مادة لمشاكل كامنة، تبدأ بالانفجار.

"في المدينة، لديك مشاكل مع السلطة"، يقول مُختار المدينة. "هنا لدينا خُرافات". عندما وصل من المدينة، كان جعفر بناهي سعيداً بالعادات الغريبة التي يعيشها في هذا المُجتمع النائي. انقلب شعوره إلى النقيض، خاصة بعد استدعائه إلى جلسة عُرفية، بقيادة كبار السنّ وحُكماء القرية (تقليدٌ متخلّف آخر)، كي يُقسم أنّ الصورة ليست في حوزته. وذلك بعد مشهد رائع، يدعوه فيه أحدهم إلى شرب الشاي معهم، ويرافقه كي لا يمضي في الطريق بمفرده، لأسباب تتعلّق بالسلامة، حيث يوجد دببة في المكان. لاحقاً، عندما انتهى كلّ شيء، سأله بناهي عن الدببة. "لا يوجد دببة"، أجاب الرجل. خُرافة أو قيود ليست صحيحة البتّة. ما الذي تُحقّقه هذه القيود فعلاً؟ ولماذا مُنِحَت الخُرافات هذه القوّة؟ المُؤكّد أنّها مُصمَّمة لإبقاء الناس في أماكنهم. هؤلاء أنفسهم يؤمنون بما قالته إحدى الشخصيات: لا بأس من الكذب، إنْ كان يخدم السلام ويحفظه.

لذا، يجد جعفر بناهي نفسه في سجن بلا جدران، ووسط جريمة مُكتملة الأركان. وجوده في قلب كلّ هذا يُثير الأسى، ما يُجبره على التفكير في تداعيات عمله على نفسه، وحتى على أقرب المُتعاونين معه، وعلى من حوله عامة، أي على كل من لا ذنب له. إلا أنّ الصورة النهائية المُستنتجة تُردّد صدى صرخة مُدوّية من فنان منفي في وطنه، مفادها: "كفى". صرخة وصلت من دون شكّ، في تحدٍّ أكيد للدببة الحقيقية والمُتخيّلة معاً، مُؤكّدةً على أن بناهي، بما له وعليه، من كبار المخرجين المُقاومين في العالم، الذين رفضوا ولا يزالون يرفضون أيّ ظلم، ولن يُسكتهم أيّ استبداد.

المساهمون