"لا تنظر إلى الأعلى" لآدم ماكاي: تذكير بصريّ ساخر برعب يعيشه العالم

03 يناير 2022
جينيفر لورنس وليوناردو ديكابريو في "لا تنظر إلى الأعلى": العِلْم في مأزق (ديفيد أل. راين/G
+ الخط -

هذا فيلمٌ يُهاجم هذه اللحظة التاريخية. بينما تُروّج حكومات كلّ دول العالم للّحقنة الرابعة للقضاء على شرّ كورونا، تُروِّج "نتفليكس" لخطر ساحقٍ سيقضي على الحياة البشرية عاجلاً. إنّه "لا تنظر إلى الأعلى" (2021) لآدم ماكاي.

التهديد بقرب نهاية العالم روّج له السرد الديني، وتُروِّج له ألعاب الفيديو وأفلام "القيامة الآن". النهاية صارت وشيكة. هناك عالِمان فلكيان يعرفان مصير العالم المُهدَّد بخطر هائل، بينما الرئيسة الأميركية وطاقمها منشغلان بمناورات انتخابية.

يتجوّل الفلكي، الدكتور راندل ماندي (ليوناردو ديكابريو)، رفقة العالِمة الفلكية الشابّة كايت دِبياسْكي (جينيفر لورنس)، للتحذير من خطر وشيك. يبدو من أداء ديكابريو أنّ ماندي غير مُقتنع بمصدر الخطر. يحاول أنْ تتطابق نوايا الشخصية مع أفعالها. يرتعش بشكل مُبالغ فيه، لتُعدي حالته المتفرّجين، فيحتجرون. تمثّل الشابّة الدور الساذج لـ"كانديد". تقول حقيقةً واحدة، فيتحطّم المطعم الذي كانت فيه.

الفيلم تذكير ساخر بالرعب الذي نعيشه، عبر حَكْي خيالي، التَقَط بذرته من واقع معيش. حَكْي يلعب بما يعرفه المتفرّج، لغوياً وبصرياً. بسبب سرعة الانفعال، يُهيمن إحساسٌ واحد على الجمهور. يذوب الفرد في القطيع المرعوب بسبب العدوى. يصير الفرد المتحضّر همجياً، يصرخ ويكسر، لأنّه يشعر بالعجز في مواجهة المُذَنَّب. لا جدوى من ارتداء الكمامة بطريقة سليمة، وغسل اليدين بالماء والصابون، والتباعد والتعقيم والتلقيح.

استخلص الدكتور ماندي العبرة مما وقع في المطعم، فانضمّ إلى عالَم الإعلام، وصار يظهر على التلفزيون. تولَّد لدى الشخصية حافزٌ قويّ، فتحسّن أداء الممثل. شَذّب الدكتور لحيته ومعجمه وسلوكه. صار في مثل حماقة الدكتور في "فلامور" (1964) لستانلي كوبريك.

في "لا تنظر إلى الأعلى"، عالِمة فلكية تجهل السياسة. تتكلّم، فتُثير فوضى. مُتخصّصة تخديرٍ تُوجِّه الشعب. مدير مكتب الرئيسة الأميركية يقتبس تصريحاته من "إنقاذ الجندي راين" (1998) لستيفن سبيلبيرغ.

"لا تنظر إلى الأعلى" فرصة للضحك على حجم غباء الجمهور. قبل مشاهدته، يُستعاد رعب عام 2020: كلّ مواطن حاذق يستخدم يده اليسرى للَمْس الأسطح المشكوك فيها بنقل العدوى، ويستخدم اليد اليمنى للَمْس أنفه. حينها، اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقع رئات المرضى في "جافيل".

قبل الحجر الصحي الشامل منتصف 2020، من كان يتصوّر حجْر ملايين البشر خوفاً من فيروس تبلغ نسبة الشفاء منه 98،5 في المائة؟

من يستحقّ أن يدير رغبات الجمهور ومخاوفه: العلماء أم السياسيون؟ هل الذين يقولون الحقيقة في جُملٍ طويلة أشبه بمتاهة، أم الذين يعرفون ضبْطَ الرغبات والمخاوف وتوجيهها، للسيطرة عليها، بجُمَل قصيرة شعاراتية؟

تُقدّم ميريل ستريب وكايت بلانشيت شخصيتين في أقصى درجات الوقاحة. زعيمة السياسيين وزعيمة الإعلاميين في توافقٍ تام. بعد كلّ حماقة، تُطلقان ضحكة بلهاء لإخفاء حجم الاحتقار. هذا يستحقّه شعبٌ فيه من الحمقى أكثر من العقلاء، حسب ثيربانتس.

هذا الفيلم عيّنة من أخبار الحمقى والمغفّلين الذين تولّوا إدارة الأزمة، وعيّنة من ضحاياهم، أي نحن. فيلمٌ يجري على هواتف وحواسيب. هنا يمضي البشر جُلّ وقتهم. ينقل إعلامُ المرحلة الخطرَ بلغة شعرية: لإنقاذ الكرة الزرقاء، تحلّق الملائكة في السماء، ويجرى تصحيح المسار. استولت شركة اتصال على الخطر، لتستثمر فيه، فتولَّد سياقٌ غريب. فَقَد الدكتور الفلكي موقعه لصالح رجل الأعمال. صار الخطر فرصة تسوّق. إنّ التسويقَ كلُّ شيء. هذا عصر رجال الأعمال. الأوغاد أقوى.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

قدّم "لا تنظر إلى الأعلى" كايت بلانشيت وميريل ستريب في أداء كوميدي عميق، أنقذ فيلماً يُشبه ريبورتاجاً في أخبار الظهيرة عن أميركا الترامبية الشكَّاكة في العلم، والمُحتفية بالديماغوجيا على مواقع التواصل الاجتماعي. التواصل الاجتماعي تافه، أما التطبيقات في الهواتف فمجرّد صفحات بيضاء، تعرض المحتوى ولا تخترعه. أهمّ محتوى يُسلّي الجميع: أخبار الفضائح الجنسية. هذا أهمّ من أي اختراع أو اكتشاف علمي. تتغذّى وسائل الإعلام من هذه التفاهة لتحقيق أعلى نسبة مُشاهدة.

فيلم آدم ماكاي محاكاة ساخرة للتغطية الإعلامية عن رعب مجهول. هزمت التفاهةُ العلمَ في مواقع التواصل الاجتماعي. استثمر الفيلمُ علمَ نفس الجموع، وأظهر كيف ينتشر الرعب بسهولة بين القطيع، بحسب غوستاف لوبون. القطيع غبي. الفيلم فرصة لاختبار صورة الشعب. يزعم معلّق سطحيّ أنّ الكوميديا تستغبي الشعب. يفترض هذا أنّ الذكاءَ يسيل في الأزقة والشوارع. كم كمية الذكاء التي صادفها المرءُ هذا اليوم في طريقه؟

قال ثيربانتِس: "لا يُباع الكِتاب إن لم يكن لاذعاً" (دون كيخوته، ص 974). كذلك الفيلم: يؤثّر حين يكون لاذعاً. هذا فيلم كوميديا سياسية تُحاكي موضوعها لتُفجّره وتفضحه. هناك بحثٌ مقصود عن هجاء سياسي حاد لما يجري، من دون تركيز كبير على الأناقة الفنية. هذه سوسيولوجيا عنيفة، حتى لو قيلت بطريقة مباشرة وغير فنية في الحوار. المهمّ: الأثر النفسي. تَفْقدُ السخريةُ مفعولَها حين يتجاوزها الواقع. لا يُمكن للفنّ أن ينافس ويتجاوز قتامة الواقع إلا بالسخرية. يوصي الفيلمُ المتفرّجَ: "لا تنظر إلى الأعلى. انظر فقط إلى من هم أسفل منك، وسترتاح".

صارت المصيبة مَشهداً تلفزيونياً مُدهشاً. يضحك المتفرّجون من رعب الكومبارس في البلد، وفي الفيلم. الفكاهة خطرة، لأنّها تُتفّه الموت، وتحوّله إلى سخرية. لهذا سوابق: بعد الطاعون الأسود عام 1346، ظهرت القصص الساخرة، "الديكاميرون" لجوفاني بوكاتشو عام 1353. بعد كورونا الأخضر، جاء "لا تنظر إلى الأعلى"، للسخرية من أساليب السياسيّ الحكيم، الذي يطمئن الناس ببثّ رسالة أمل مُخدِّرة. في المقابل، يشعرُ العالِمُ المتخصّص بالقلق، ثم بالإهانة، لأنّه "يؤخذ على قدر عقله". يشرح له الزعيم السياسي أنّ الأمن وضبط القطيع أهمّ، لا إثبات الحقائق. بعدها، فوجئت العالِمة الباحثة عن الحقيقة بأنّ والديها يصدّقان الزعيم السياسي ويكذّبانها، فتقرّر أن تعيش حياتها بدلاً من انتظار الموت.

لذلك، فليُبارك الربُّ هذا المجتمع، وليُبارك كلّ من شعر بأنّ مستوى الفيلم ارتفع في النهاية. ففي النهاية، انعزلت النخبة لتتناول العشاء بسلامٍ بعيداً عن الجموع. كان ذلك العشاء الأخير للرواقيين، الذين لم تسبق لهم الصلاة.

المساهمون