"لأنّها بلادي" سأقصف مدنها

14 يوليو 2021
يظهر الجنود الذين يقصفون المدن كأبطال (محمد سعيد/الأناضول)
+ الخط -

تمتنع معظم القنوات التلفزيونية العربية عن شراء المسلسلات السورية ذات الطابع العسكري، لكنّ النظام السوري ما زال مصراً على إنتاج هذا النوع من الدراما، رغم فشله بتسويقها، ويخصص لها جزءاً كبيراً من ميزانيته، في الوقت الذي تعاني فيه سورية من أزمة اقتصادية حادة. ذلك كلّه بغرض عرض هذه المسلسلات محلياً عبر قنواته الرسمية فقط، بالإضافة لقنواته الخاصة على وسائل التواصل، ليدعم من خلالها روايته الإعلامية، مع العلم أنّ القنوات السورية الرسمية لم تعد تحظى باهتمام الشارع السوري في الداخل اليوم.
أخيراً، بدأ التلفزيون السوري بعرض مسلسل جديد ينتمي لهذا النمط، الذي يطلق عليه تسمية الدراما الحربية، وهو مسلسل "لأنّها بلادي" للمخرج نجدة إسماعيل أنزور، والكاتب محمود عبد الكريم. عملٌ حقق ضجة إعلامية واسعة قبل عرضه، حين كان يحمل اسم "أقمار في ليل حالك" وذلك بسبب قيام مخرج العمل بإعادة قصف مدن سوريّة سبق للنظام أن دمرها، أثناء التصوير.
هذا المسلسل كان من المفترض أن يعرض قبل شهرين، كجزء من الحملة الانتخابية لبشار الأسد، بحسب تصريحات صنّاعه، إلى جانب فيلمين من إنتاج الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، هما: فيلم "لآخر العمر" للمخرج باسل الخطيب، وفيلم "أنت الجريح" للمخرج ناجي طعمة. وبحسب تصريحات وزير الإعلام، عماد سارة، فإنّ المسلسل يوثق بطولات الجيش العربي السوري ومعاركه، مشيراً إلى أنّ أهمية العمل تكمن في أنّه وثيقة للأجيال القادمة، كي تدرك ما حدث في سورية. وبالفعل، هذا ما تشعر به أثناء متابعة المسلسل، فهو ليس سوى وثيقة مفبركة يصنعها النظام السوري ليحاول من خلالها أن يكتب التاريخ كما يحلو له، مستخدماً لغته ومسمياته وأكاذيبه، ويسرد التاريخ على لسان صحافية، تجسد دورها الممثلة ندين، التي تسرد حكايات المسلسل ذات السياق المنفصل.
يعرض المسلسل حكايات العسكر بأسلوب هزلي، يمزج بين الرومانسية والخطاب الوطني المباشر؛ فالعساكر والضباط، بحسب المسلسل، هم رجال مثقفون يلقون أبيات الشعر العربي القديم في مكاتبهم، ويستمعون إلى فيروز كلّ صباح، قبل أن يحملوا سلاحهم وينطلقوا نحو المعركة؛ لذلك هم محط إعجاب النساء. هذا ما يركز عليه المسلسل في اللوحة الأولى منه، التي تحمل اسم "ذخيرة من الحب" ويلعب دور البطولة فيها جوان خضر، فهو يجسد شخصية طيار حربي اسمه "الحارس" يحلّق بطائرته الحربية ويقصف المدن، بينما تنتظره خطيبته بعيون مليئة بالحب. وأثناء الانتظار، تقول لصديقاتها إنّ السبب الحقيقي لحبها لـ"الحارس" هو كونه رجلا يدافع عن بلده ضد الإرهابين.
ففي كلّ يوم يطير فيه "الحارس" لقصف "الإرهابيين" تنتظره حبيبته على إحدى التلال لتراه وهو يحلق من فوقها بطائرته وتلوح له بانتظار غمزاته. وهي لقطات تبدو وكأنّها مقتبسة عن المسلسل الكرتوني "غرندايزر" وأعيد تصويرها برداءة وابتذال.
وعندما صرح وزير الإعلام عماد سارة، بأنّ الهدف الأساسي من هذه الملحمة الدرامية هي أنسنة الجيش بالدرجة الأولى، كان محقاً؛ فالنظام السوري، كما هو واضح، يحاول من خلال هذا العمل أن يلمع صورة عناصر الجيش وينفي عنهم صورتهم الإجرامية التي طُبعت في مخيلة ملايين السوريين الذين تعرضوا للتهجير وعانوا من القصف والقتل والتعذيب.
في لوحة "رصاصة قدر" يتم تصوير الجنود عند الخطوط الحدودية في منطقة القلمون، وهم يغضون الطرف أحياناً ليسمحوا للمهربين بالمرور مع بعض البضائع، مبررين ذلك بأنّهم كبشر يتفهمون جريمة التهريب، كونها تساعد بعض الناس على كسب رزقهم ولا تؤدي إلى أضرار جسيمة.
هذه الفرضيات تتعارض مع الواقع، فعساكر الحدود هم ليسوا سوى شركاء للمهربين، ويتقاضون الرشاوى ليسمحوا لهم بإدخال البضائع الممنوعة، من دون أن يوجد النظام السوري بديلاً لها. وكذلك هي الحال في لوحة "الطريق إلى الجنوب"، حيث يأسر الجيش مجموعة من الإرهابيين، ويحرص الضابط المسؤول عن العملية على تقديم الطعام والشراب للأسرى طيلة الوقت، ويخوض معهم جلسات توعية لإقناعهم بتسليم سلاحهم والعودة لحضن الوطن؛ وهو الأمر الذي يبدو بعيداً كلّ البعد عن واقع السجون السورية، التي تعمل على تجويع المساجين وتعذيبهم بطرق وحشية، وتنتزع منهم الاعترافات بالقوة وتحت التهديد.
والأغرب من كلّ ذلك هو ما يحدث في لوحة "ذخيرة من الحب" التي تملؤها الخطابات المثالية، والتي تهدف للادعاء بأنّ النظام السوري لا يقصف المدنيين مهما كان الثمن؛ الأمر الذي يتعارض حتى مع تصريحات الرئيس بشار الأسد، الذي أشار في وقت سابق، إلى أنّ الحرب تحتم عليه ذلك.

ومن الأمور التي تبدو متعارضة مع الواقع أيضاً، تصوير المسلسل لشخصيات الضباط في جيشه على أنّ شاغلهم الأول والأخير هو الحرص على سلامة الجنود. ففي لوحة "الطريق إلى الجنوب" يأمر الضابط العسكري "ورد"، في إحدى المعارك، أن يعود ويتراجع عن مهمته بسبب الخطر المحيط به، ويذكّره بوجود شهيد سابق في عائلته، ويتحدث بعاطفة عن ضرورة حرصه ومراعاته لمشاعر أمه، التي قد لا يتحمل قلبها نبأ استشهاده، ليؤكد دائماً: "آمرك بألّا تستشهد، هذا أمر عسكري"... وكأنّ التجنيد في سورية أمر اختياري وليس إجبارياً... وكأنّ الشباب لا يُساقون إلى الجيش رغماً عنهم، ويتركون في ساحات المعارك حتى الموت من دون أن يهتم أحد بمصيرهم. يرد الجندي: "أنا بدي إستشهد"... وكأنّ كلّ التضحيات لم تكن سوى تهور من الجنود. فعلياً، يبدو المشهد أكثر قدرة على إثارة السخرية عندما نربطه بصور من الواقع عن التعويضات التي يقدمها النظام السوري لضحاياه، إذ يقدم لعائلة كلّ جندي يموت سلة من البرتقال وساعة حائط طبعت عليها صورة بشار الأسد.

المساهمون