"كمشتك"... وجبة ذكورية قوامها التفاهة
لعلّ أقدم تعريف وصل إلينا عن الكوميديا، هو ذلك الذي صاغه أرسطو في كتاب "فن الشعر"، حيث وصفها بأنها محاكاة لأشخاص أدنى مرتبةً، لا في كل أنواع الرذيلة، بل في جزء مشين يحقق عنصر الفكاهة. ذلك لأن ما يبعث على الضحك، هو خطأ أو نقيصة لا تبعث على الألم ولا تجلب التهلكة. ليس المطلوب قطعاً الالتزام بهذا التعريف البدائي للكوميديا؛ فالكوميديا هي فن يتطور بشكل مستمر، وحتى في عهد الإغريق القدماء، مرت بثلاث مراحل: السياسية والأسطورية والأنماط الاجتماعية. لكن المقصود هنا من الإضاءة على التعريف الأقدم للكوميديا، هو الإشارة إلى اقتران ولادة الكوميديا بالتنبيه الأخلاقي، فمع أولى تعريفاتها، وجب التحذير بأن الكوميديا يجب أن "لا تبعث على الألم ولا تجلب التهلكة".
هذا البعد الأخلاقي في الكوميديا، يبدو معدوماً في معظم المسلسلات الكوميدية السورية التي ظهرت بعد الحرب، فهي في الغالب قائمة على السخرية من فئات اجتماعية مستضعفة، يحملها صنّاع الكوميديا مسؤولية المأساة التي يعيشونها. ففي الغالب، هي تتعاطى مع إهانة النساء والفقراء والعاملات الأجنبيات كوسيلة لصناعة النكتة! وقد تطاول السخرية في بعض الأحيان ضحايا الحرب، كما حدث قبل سنتين حين سخر مسلسل "كونتاك" من ضحايا المجازر الكيميائية التي ارتكبها نظام الأسد. لكن تلك اللوحة التي أثارت غضب الشارع السوري حين عُرضت، لا تعتبر أسوأ ما قدمته الكوميديا السورية.
ففي الموسم الرمضاني الحالي، يُعرض مسلسل سوري جديد اسمه "كمشتك"، مكون من لوحات منفصلة قصيرة، تتراوح مدتها ما بين ثلاث وثماني دقائق. ويمكن القول إن "كمشتك" هو أدنى درجات الانحطاط التي وقعت فيها الكوميديا السورية حتى هذه اللحظة.
على الرغم من أن حلقات "كمشتك" لم يكتبها مؤلّف واحد، إلا أن جميع الحلقات يحكمها المنطق الذكوري نفسه، إذ يلقي باللوم في كل مشاكل الكون على النساء، يحقرهنّ ويشيطنهن، ليعلل من خلال هذا المنطق كل مشكلة أو أزمة يعيشها السوريون في الداخل اليوم.
ففي سكتش "طلبات نسائية"، يشار إلى أن سبب غلاء الأسعار والأزمة المعيشية هو "نق النساء"، وأن جشعهن وغباءهن يتسببان بمعاناة المواطنين (الذكور طبعاً)، ليجدوا أنفسهم مجبرين على العمل على مدار الساعة كالماكينات! وفي سكتش "سلاح حوا" وسكتش "الشرطة بتاخدلي حقي"، يتم تصوير التحرش على أنه سلاح، تستخدمه النساء للإيقاع بالرجال في فخاخهن، وأن المجتمع الذكوري البريء يعاني من فذلكات الحركات النسوية.
لكن أسوأ حلقات المسلسل هي الثامنة، التي تحمل عنوان "الحبة الزرقة"، ويلعب دور البطولة فيها محمد حداقي. تبدأ الحلقة في مركز طبي، حيث يخبر حداقي الطبيب أنه بات عاجزاً جنسياً وغير قادر على تلبية رغبات زوجته ويطلب منه الدواء؛ فيقوم الطبيب بوصف علاج نفسي له، ويقول: "المسا بس تكون قاعد مع مرتك قعدة حميمية .. تذكر مين كان السبب بخراب البلد.. تخيله مكان مرتك وأمورك رح ترجع تمام".
في المشهد التالي، ننتقل إلى المنزل حيث تقوم الزوجة بإغواء حداقي، فينظر لها ويبدأ بالتخيل، فيشاهد متظاهرين يرددون شعار "حرية حرية"، يليهم تجار الأزمة والمسؤولون الفاسدون، فتنجح الوصفة على الفور! هذه اللوحة تبدو نموذجاً للانحطاط الفكري والأخلاقي والفني، فهي من ناحية تصور المتظاهرين السلميين كمجرمين يجب على كل مواطن أن يشارك بمعاقبتهم وإذلالهم بل واغتصابهم! ومن ناحية أخرى، تتعاطى مع الفعل الجنسي كإذلال وإهانة للمرأة.
هناك لحظة واحدة يجب أن نقف عندها بجدية في هذه الحلقة، هي شعار "حرية حرية" الذي يردده المتظاهر المتخيّل؛ إنه فعلياً الشعار الأول الذي ردده المتظاهرون، ونقلته اللوحة كما هو، فلم يحمل المتظاهر سلاحاً ولم يدع بشعاراته للخراب أو القتل أو الطائفية، كما كان الإعلام السوري يدّعي. مع ذلك، اعتبره المخرج يمان إبراهيم صورة أيقونية للناس الذين خربوا البلد! ليضع نفسه أمام مفارقة، فكيف يمكن أن تكون المطالبة بالحرية سبباً في كل هذا الدمار والتشرد والجوع الذي يعيشه السوريون اليوم؟
المساهمون
المزيد في منوعات