بنقلها إلى السينما، يُوسِّع المخرج فْرَيْد بَيّليف (1973)، دائرة عرض المأزق الأخلاقي، المُتأتّي من اختلال فهم المؤسّسات الاجتماعية السويسرية لطبيعة علاقتها مع مُراهقين، تُوكَل لموظّفيها مهمة حمايتهم من الخارج، العصيّ عليهم قبوله والتعايش معه. قبل تأطيره التجربة سينمائياً، اختبر بَيّليف، بحكم عمله السابق كمرشد اجتماعي ومُدرّس، المشكلة، وتناقض فهمه لها مع موظّفين "بيروقراطيين"، يتحرّكون وفق مسطرة، تتوافق مقاييسها مع نفاق اجتماعي، وخوف من مواجهة، وبها يكتفون للعب دور الرقيب.
المعايشة الوظيفية، والرغبة في تأجيج الأسئلة، دفعتاه إلى كتابتهما (السيناريو والإخراج له) روائياً. وبدلاً من التوافق الكلّي مع "واقعيّتهما"، اللتين تفترضان معالجة وثائقية، تتوفّر لها عوامل التحقيق من دون كبير جهد، اختار لـ"قُرْبَى" (2021، جائزة أفضل فيلم في مسابقة "جيل، 14 بلس"، في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المنعقدة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021)، الأصعب تنفيذاً: اشترط على 7 مُراهقات، أقمن في دار رعاية وحماية اجتماعية، نسيان قصصهنّ الشخصية، والالتزام كممثّلات بالنصّ المكتوب. ولإضفاء مزيد من العفوية، ترك لهنّ حرية الكلام والتعبير، شرط توافقهما طوال فترة التصوير مع المخطّط الهيكلي للفيلم.
لا يريد السينمائي تصفية حساباته مع المؤسّسة التي يتعارض معها. هاجسه الإبداعي يمنعه من ذلك، دافعاً إياه إلى أخذ أكثر ما في السينما قوّة وتأثيراً، لعرض جانب إشكاليّ من المشهد الاجتماعي على أكبر مساحة عرض، ولا بأس ببحثه بعمق، طالما أنّه قادر على توفير شروطه الجمالية والإبداعية. المُحقَّق من المعادلة العصية بين الشكل والمضمون مَثار إدهاش، والتداخل المتوازن بين الوثائقي والروائي يمنح النص حيوية وعفوية، ويُقلِق معه يَقين المشاهدة: هل هذا الذي على الشاشة فيلمٌ أو واقع؟ يُلازم السؤال مدّة العرض (112 د.)، وما يزيده إلحاحاً تصرّفات بطلاته، وذهاب بعضهن إلى أبعد من التمثيل، إلى واقعهنّ المَعيش، فيصعب تمييزه حينها عن المُجسّد خيالاً.
إيقاعه السريع، ونقله انفعالات بطلاته وتوتراتهنّ وفقاً للمكتوب، والتصاق الكاميرا المحمولة بحركةٍ لا تعرف السكون (إنجاز لافت للمُصوّر جوزيف أردي)، هذا كلّه يزيد إحساس المُشاهد باقترابه من عالمٍ مُحاطٍ بضبابية متعمّدة، يريد "قُرْبَى" إزاحتها، لإظهار الكامن خلفها.
من التعقيدات النفسية والارتباكات الجسدية الملازمة لمرحلة المراهقة، يختار بَيّليف الجنسانية مُحوراً لمكاشفة مجتمعية، تعرّي نفاقاً. فهمه ورؤيته لها يتوافقان مع نظرة اجتماعية، تُفسّر السلوك الجنسي البشري بما يحيط به من ظروف تنشئة وتطوّر بيولوجي. لا يتشارك مع فرويد في تفسيره الجنس وطاقته المحركة، بل مع تجربة زميلة له تُدعى كلوديا غروب، أدارت مؤسّسة رعاية معه. لكي ينقلها إلى سياق درامي، كلّفها بتأدية دور المديرة لورا، التي تظهر على الشاشة بعد انقطاع عن العمل، بسبب موت ابنها انتحاراً. الغياب والبُعد يُجسّدان فيلماً بصيغة الماضي المستمر، والآني الواقعي كحاضر متقلّب، يُحرر السرد من سياقه التصاعدي التقليدي، ويمنح الإيقاع الزمني المتقطّع للمُشاهِد فرصة جيدة لتقبّل أحداث الفيلم، بوصفها حكايات فردية مكتوبة، لا علاقة لها بالحياة الحقيقية للممثلين.
التوليف (للمخرج أيضاً) يحقّق ذلك الانفصال المطلوب، ويؤدّي دوراً رائعاً في تعدّد الأزمنة الدرامية. خطوطها المشتركة: الجنس وزنى المحارم. الموظّفون التقليديون يخافون من تجاوز خطوط منعه، المدوّنة في لوائح السلوك. كلّ خرق بسيط يُحيل المراهق إلى الشرطة، أو يُقدِّم مرتكبه إلى لجان محاسبة اجتماعية. الخارج، المنقول إلى الداخل مع المراهقات، مُخيف، ويكشف انتهاكات جنسية عائلية مسكوت عنها، وعمليات اغتصاب آباء لأطفالهم، يُغضُّ الطرف عنها عائلياً، خشيةً من الفضيحة. التسترّ عليها يشي بسلوك اجتماعي، تغذّيه محافظة أوروبية منافقة. يُقارب في الجوهر سلوك موظّفي دور الرعاية. إداراتها تعلّمهم كيف يتجنّبون أسئلة الجنس وممارسته. يهربون منها بقرارات، يُراد بها التغطية عليها لا مناقشتها، ووضعها في السياق السوي لها. نكرانه في بيوت الرعاية، وإشاعته سراً في الخارج، يُحدثان بسببه تصادماً بين الطرفين، ويرتفعان إلى مستوى الكراهية. التفاصيل الدقيقة، المنقولة على الشاشة، تجد التعابير المناسبة عن ذلك السلوك.
الهوّة بين الأطراف كلّها مُتّسعة. تُكذِّب حدّتَها فكرةُ العائلة البديلة، وتُفتّت أوهام صلة القُرْبَى بين المقيمين فيها. الخارج لن ينفكّ عن ارتكاب الموبقات والمحرّمات. يرفدها إلى مؤسّسات محافظة، عاجزة عن التكيّف مع حالات تثير ألماً وتعاطفاً. تتشعّب معها حكايات مراهقين، يصعب عليهم التكيّف مع واقع مختلّ التوازن، ومزدوج القِيَم. يمسك "قُرْبَى" بالخيوط الجامعة لها، ليكاشف بها، ويفجّر ـ بمعالجة سينمائية متعدّدة المستويات ـ قيح دمامل سلوكيات مُرتبكة، جسّدها أداء تمثيلي مُدهش لهواةٍ، سرّب وجودهم العفوي حيوية إلى نصّ منفلت، يصعب عادة نقله روائياً إلى السينما، مثلما يصعب تصديق أنّ التنوّع في الاختصاصات يُثمر، أحياناً، درساً سينمائياً مُلهماً.
(*) أمضى المخرج عامين كاملين في تدريب المشاركين في الفيلم. أكمل تصويره في أسبوعين فقط. مثّل أدواره الرئيسية: كاسيا دا كوستا وجوزي ندايسغنا وتشارلي أريدي وأميلي تونسي وأماندي جولاي وسارة تولو وأمادو سيلا.