تفسيرات مختلفة يُمكن الركون إليها في الدلالات المنبثقة من آيةٍ في سفر المزامير، يقرأها بيتر (كودي سمت ـ ماكْفي) من نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدّس: "أنْقِذْ من السيف نفسي من قوّة الكلب حبيبتي". الآية نفسها مكتوبة بترجمات مختلفة بين الإنكليزية والفرنسية والعربية، لكنّ معناها العميق واحدٌ. الآية، التي يُفترض ببيتر قراءتها صامتاً، وشمعةٌ تُتيح له ضوءاً، بعد وقتٍ قصيرٍ على وفاة فِلْ (بندكدت كامبرباش)، تظهر علناً بعد عنوان "(كتاب) ترتيب دفن الموتى". الآية واقعةٌ بين آياتٍ يتلوها الملك داود، مقارناً فيها هجمات أعدائه بهجمات حيوانات مختلفة، بينها الكلاب، وتحديداً "قوّة الكلب"، العنوان الذي تضعه جاين كامبيون لفيلمها الجديد، الفائز بجائزة "الأسد الفضّي" لأفضل إخراج، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" (نتفليكس). هناك من يرى في المفردة الإنكليزية Darling، الواردة في مشهد قراءة بيتر، حياةَ الملك داود، أي "حبيبتي".
الإسراف بالتعمّق في معنى الآية، وإدخال الآية ومعناها في سياق سرديّ لفيلمٍ يميل إلى الـ"وسترن"، ويتحرّر، في الوقت نفسه، من قواعد كثيرة له، يحول دون متعة مُشاهدة، يُرافقها تأمّل في أسئلة وعناوين. في المقابل، فإنّ عدم الإسراف، وعدم ربط الآية وتفسيراتها بمسار الشخصيات ومصائرها، يمنعان التمتّع بخفايا نصّ ومَشاهد يزخران بلعبة إضاءة، وبألوان بهيّة (بعضها غارقٌ في الرمادي والعتمة والسواد)، وبحركات مليئة بإشارات ودلالات، وبحوارات تختزن حِيلاً ومعانٍ مبطّنة. الآية امتدادٌ لقول بيتر، كراوٍ، في البداية: بعد وفاة (انتحار) والده الدكتور جون غوردون (1880 ـ 1921)، يُقرِّر الابن الوحيد المدلّل أنْ يجهد في حماية والدته روز (كيرستن دانست) من كلّ شرّ، وفي منحها هدوءاً وسلاماً وسعادةً تستحقها. يتعهّد بيتر بهذا كوعدٍ أمام قبر والده، في مونتانا، عام 1925.
توضيح الربط بين قول بيتر وقراءته المزمور الـ22 يُلغي أحد أجمل معاني "قوّة الكلب" وأعمقها. التزام بيتر دافعٌ له إلى مواجهة مخاطر وتحدّيات وإهانات، والإهانات تحديداً دافعٌ له إلى البدء بتنفيذ الوعد، قبل بلوغه لحظة تمكّنه من تحقيق الالتزام ـ الوعد. الآية نفسها تُشير إلى فعلٍ يرتكبه بيتر لتنفيذ وعده، والوعد هنا بمعناه الديني الصارم، أكثر من أي معنى آخر، إذْ يفرض على الناطق به التزاماً أخلاقياً قاسياً لتحقيق ما يَعِد به، رغم كلّ شيءٍ، وإلا فالجنون مصيره.
يُحيل هذا إلى "الوعد (The Pledge)" لشون بن (2001)، المستلّ من رواية بالعنوان نفسه للكاتب السويسري فريدْريتش دورنمات، صادرة بالألمانية عام 1958.
القصّة عادية وبسيطة: الأخوان فِلْ وجورج (جيسي بْلامنس) بوربانك يعيشان في مزرعة ويعملان فيها، بعيداً عن والديهما. فِلْ ذو شخصية صارمة. عنيفٌ وساخر ومُتعالٍ، يريد سيطرة على الجميع وعلى كلّ شيءٍ. يعاني ألماً روحياً وتمزّقاً نفسياً، لعلّ مقتل برونْكو هنري (1854 ـ 1904)، معلّمه ومُدرّبه وصديقه، سببٌ للمعاناة. يتسلّط على شقيقه، الهادئ وشبه الصامت والمُسالم والمُحبّ، الذي يتقرّب من روز، بعد إهانة فِلْ لابنها، "مُعيِّراً" إياه بأنوثةٍ غير لائقة بالرجال. جورج يتزوّج روز، وينتقل معها إلى المزرعة، فيُصاب فِل بعطبٍ إضافي، يُزيده عنفاً كلامياً وسخريةٍ مُهينةٍ وانفضاضاً مطلقاً عن روز وابنها، دارس الطبّ، كوالده.
تسير الأمور وفق نزاع خفي بين فِلٍ من جهة، وروز وابنها من جهة أخرى. خفايا قليلة، يُخبّئها فِلْ وروز عن الجميع، تنكشف بطيئاً: روز مُدمنة كحول، رغم اعترافها علناً بكرهها للخمر، وفِلْ ـ غير الراغب في الاستحمام ـ يمتلك حيّزاً جغرافياً، لن يعلم به أحدٌ البتّة، يمارس فيه رغباته وتأمّلاته واستحمامه في بحيرة صغيرة. بيتر يعثر صدفة على المكان، ما يدفع فِلْ إلى تهدئة التشنّج والتوتّر الحاصلَين بينهما، فيُصبح بيتر مُقرّباً منه.
تُرى، أتُناسِب المرحلةُ الجديدة الابنَ الوحيد المدلّل لتحقيق وعده، الذي التزمه إزاء نفسه فقط؟
لفِلْ لحظات عدّة ينظر فيها إلى البعيد، حيث جبال تحيط المزرعة. رفاقه رعاة البقر يسألونه مراراً عمّا يراه هناك، أو عمّا يحدث هناك، فلا يُجيب، إذْ بالنسبة إليه، "لا يوجد شيءٌ طالما أنّك لا تراه". بيتر يُخبره أنّه يرى شيئاً، فيُعجب به. فِلْ متعلّق للغاية ببرونكو هنري، فيُلمِّح بيتر إلى علاقة مثلية الجنس بينهما. ملامح فِلْ وسطوته وشخصيته الحادة ونبرته القاسية تبدو كأنّها تشير إلى أنّ شيئاً آخر في ذاته مناقضٌ لهذا، ففي لحظات عدّة يوحي فِل بمثلية جنسية، من دون أنْ ينكشف هذا كلّياً.
الأسئلة كثيرة ومعلّقة، وأحد أبرز سمات جمال "قوّة الكلب" كامنةٌ في التباس أحوال ومعانٍ، وفي غموض مخبّأ هنا وهناك. السيناريو (جاين كامبيون، مقتبسة إياه عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الأميركي توماس سافاج، صادرة بالإنكليزية عام 1967) منسوجٌ بحبكةٍ تُتلى آياتها بهدوءٍ، ويمارس التوليف (بيتر سِباريس) مهمّة سردها في تقاطعات وتداخلات تشي، أحياناً، بأنّ شيئاً مفقودٌ، على المُشاهِد التقاطه. كثرة الظلال والعتمة دلالة على غرق فردي وجماعي في جحيم عيشٍ يوميّ على ضفة موتٍ وخرابٍ ومتاهة. الألوان قليلة، لكنّها انفتاحٌ على مسام المخفيّ في ذواتٍ وأرواحٍ، يندر تحرّر بعضها من أشباح تحاصرها. سطوة الموت (برونكو هنري بالنسبة إلى فِلْ، وجون غوردون بالنسبة إلى بيتر) أقسى من الموت نفسه، لكنّ خلاصاً منه يحصل، إنْ يكن هناك خلاصٌ كاملٌ.
يكتب تامال كوندو، في TheCinemaholic (2 ديسبمر/كانون الأول 2021) أنّ روز هي "حبيبتي" في الآية تلك، وأنّ فِلْ وجماعته هم "قوّة الكلب". تفسيرٌ يتّضح في مُشاهدة فيلمٍ، مبنيّ على سردٍ هادئ جداً، إلى درجة الإيحاء برتابة وملل، لكنّ الغليان الحاصل في نفوسٍ وعلاقاتٍ وانفعالاتٍ وحالات كفيلٌ، بفضل براعة إنجاز مُنجزٍ كهذا، بإلغاء كلّ رتابة وملل يوحي بهما التصوير (آري واغنر)، القادر على منح المُشاهِد بهاء صُور (بعض اللقطات أشبه بلوحات تشكيلية)، تعكس ـ بألوانها وكادراتها وأبعادها الطبيعية والمخبّأة ـ قسوة وانكساراتٍ وخيباتٍ وتمزّقاتٍ ورغباتٍ وأقداراً.