"قصّة حبّ ورغبة": جيدٌ بصرياً وأدائياً رغم هنات قليلة

03 سبتمبر 2021
"قصّة حبّ ورغبة": اكتشافات سينمائية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

رغم أهميتها الكبيرة، والمساحة العريضة التي تشغلها في المهرجانات الدولية والسينما العالمية، لا تزال أفلام مرحلتي المراهقة والنضوج مُهمَلة تماماً في السينما العربية، لأسبابٍ غير واضحة وغير مُبرّرة، مع أنّ غالبية التركيبة العمرية لسكّان المنطقة العربية مراهقون وشباب. هذا الغياب التام يحجب تناول مشكلات اجتماعية واقتصادية ونفسية كثيرة، ترتبط بهذه الأجيال، التي تتشكّل وتنمو في عالمٍ مُركّب ومُعقّد، ومليء بالتناقضات، يمتد على اتساع العالم العربي.

في جديدها "قصّة حبّ ورغبة" ـ الذي عُرض في ختام برنامج "أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ تناولت التونسية ليلى بوزيد هذا الموضوع، الذي لامسته سابقاً، بشكلٍ جزئي، في الروائي الأول لها "على حلّة عيني" (2015)، وفيه صراع بين جيلين مُتباينين، وعقليتين مختلفتين. فتاة مُراهقة، طموحة ومتحرّرة، تتعلّم كيف ترى وتتعرّف على العالم بقلبها البكر، ساعية إلى كسر كلّ هيمنة وسيطرة، في مقابل والدتها، كرمزٍ أيقوني للمجتمع الشرقي، بتفكيره الجامد والعتيق والانغلاقي.

في "قصّة حبّ ورغبة" (أو "مجنون فرح" وفقاً للعنوان العربي)، تعاين ليلى بوزيد إحدى معضلات فترة المراهقة، لكنْ بتناولٍ مختلف كلياً، يتّسم بالعمق والصدق إلى حدّ بعيد. لا تدور أحداث القصّة في العالم العربي، ولا تنشغل بشباب المنطقة، بل بجيلٍ عربي مولود في الغرب، متناولةً مشكلة التجربة الجنسية الأولى في حياة المراهقين، وراصدةً التوتّرات الداخلية المُرافقة لها، حيث التعارض بين العقل والقلب والجسد. يُمكن تعميم الموضوع على الأجيال الشابة أو المراهقة في العالم العربي برمّته.

الموضوع الصدامي للفيلم أحد عناصر قوّته، وكذلك لأنّ أحداثه تتمحور حول شابٍ لا فتاة، إذْ تكون الأنثى دائماً محور الاهتمام، كما تظهر هي لا الرجل على قدرٍ من الهشاشة والخجل والتحفّظ والتردّد والانغلاق. يطرح الفيلمُ الجديدَ والشائكَ، ويخترق بجرأة مناطق بعيدة جداً عن تناول السينما العربية لها.

لا تنشغل بوزيد كثيراً بالسياسي والاقتصادي، إذْ تستعرض مشاكل الجسد والنفس والروح، وصراعها مع العقل والتفكير والعادات والتربية، عبر أحمد (سامي أوتلبالي) ذي الأعوام الـ18. فرنسيّ من أصل جزائري، ذكي وخجول ومتحفّظ ومتردّد بشكل لا يُصدّق. لم يُمارس الجنس أبداً. يعمل بدوام جزئي في شركة نقل، يملكها ابن عمه المُحافظ كريم (بالأمين عبد الملك). لا احتكاك له مع الخارج، بعيداً عن ضواحي باريس، التي يسكن إحداها.

في "جامعة السوربون"، يحدث أول احتكاك خارجي له مع العالم الفرنسي الحقيقي. هناك، يلتقي فرح (زبيدة بِلْحاجعمور)، شابّة ذات شخصية مغناطيسية، حيوية ومنطلقة ومنفتحة ومرحة، ومُحبّة للحياة وللتعرّف على كلّ جديد. يصدف أنّهما يدرسان الأدب العربي معاً. يقترب أحدهما من الآخر تدريجياً، مع بحثهما عن نصوصٍ أدبية من القرن الـ12، مرتبطة بالحب تحديداً، بناء على طلب الأستاذة آن موريل (أوريليا بُوتي).

 

 

يُدهشان أمام ثراء الأدب العربي بتراثٍ ضخم من كتب الحبّ والعشق والهيام والرغبة. يتفحّصان "الروض العاطر في نزهة الخاطر"، لأبي عبد الله محمد النفزاوي، و"ترجمان الأشواق" لابن عربي، ومختارات من أشعار العرب، وغيرها. لكنّ تلقّي كلّ واحد منهما لـ"الروض العاطر" يختلف عن تلقّي الآخر له. من هنا، ينطلق الفيلم، خاصة مع انجذاب أحمد لفرح، وافتتانه بها.

بفعل الحبّ، وهرمونات المراهقة، يستيقظ الجسد باحثاً عن شيءٍ لم يعرفه بعد. ورغم أنّ الرغبة تغمر أحمد حرفياً، يُقاومها، على عكس فرح. فالحبّ عنده يرتبط بالنقاء والتقديس، الرغبة الجنسية ليست مظهراً من مظاهره، بل فعل مُخجل وغير مُكَمِّل. هذا يؤكّده أحمد عند سماعه قصّة العشق بين قيس وليلى، واستنكاره لأيّ بُعد ماديّ للعلاقة.

تدريجياً، نتعرّف عليهما أكثر. فرح منطلقة ومتحرّرة. على استعداد للاعتراف بالرغبة واحتضانها من دون تعقيد. أحمد يحلم ويتخبّط ويعيش، خيالياً، مع رغباته. يعاني صعوبة التعامل مع مشاعره الأولى. تعرف هي من أين جاءت، وماذا تريد، ولا تعاني مشكلة هوية. مرتاحة تماماً لجنسها وأصلها، ومتقبّلة ثقافتها التونسية العربية، ومقبلة على الحياة والتعلّم واكتشاف كلّ جديد. لا تشعر أنّها في غير محلها، أو بخوفٍ أو انقطاعٍ عن البيئة حولها. أحمد نقيضها: غير متصالح مع نفسه وهويته، ولا يعرف شيئاً عن وطنه الأصلي، ولا عن ثقافته. حتى اللغة العربية يجهلها، قراءة وكتابة. لكنّ حظّه جميلٌ للقائه تلك الفتاة المستفزِّة لطبيعته الهشّة.

بازدياد حبّه لها، ينقلب كيان أحمد. تدفعه العلاقة إلى مراجعة صلته بنفسه وثقافته وعائلته وأصدقائه. تدريجياً، يكتشف نفسه والحبّ وثقافته العربية. يحاول، بدافع حبّه الصادق لفرح، إيجاد التوازن بين الغريزة وضبط النفس، والصراع بين دفقات القلب وقيود العقل وفحولة الجسد. وقبل كلّ شيء، استكشاف هويته.

بفضلها، يكتشف الثقافة العربية والأدب والموسيقى. يطرح الأسئلة على نفسه ووالده. يبحث عن أصوله. ينفتح على الحبّ والشهوانية، ويتحرّر تدريجياً من الأفكار المسبقة عبر جمال الكلمة، وعشق اللغة، والاستمتاع بالموسيقى، ومعانقة الغريزة.

شخصية فرح مُثيرة للاهتمام: من أين جاءت ابنة الثقافة العربية بكلّ هذا الانفتاح والانطلاق والجرأة وحبّ الحياة؟ هذا لا يوضحه "قصّة حبّ ورغبة". محاولة ليلى بوزيد الوصول بقصّة الحب بينهما إلى مستوى حكاية مجنون ليلى، أو حبّ قيس لليلى، وشعرنة الفيلم، لم تكن مُقنعة، ولم تمضِ كما ينبغي. كذلك المرور سريعاً على العوامل الاجتماعية والتربوية، والابتعاد كلّياً عن الدينية، لم يكن جيّداً لتعميق الشخصيات، لكنّه لم يخلّ بتوازن الفيلم وبمصداقية الشخصيات.

"قصّة حبّ ورغبة" جيدٌ ومؤثّر، سيكون صداه قوياً وجديداً في السينما العربية، بالنسبة إلى التناول والموضوع والمعالجة. كما أنّه جيدٌ بصرياً وأدائياً إلى حدّ بعيد.

المساهمون