"فنّ التكريم" السينمائي: عشوائية عربية تكتفي بالإيجابي

07 يوليو 2022
سيلفستر ستالون بين جمهور "كانّ" 2019 (لوي فِنانْس/فرانس برس)
+ الخط -

مهرجانات سينمائية، عربية وأجنبية، تتمسّك بفقرة التكريم، في افتتاح دوراتها السنوية، أو في ختامها. مهرجانات عربية تخطو خطوة إضافية في مسألة التكريم: إصدار مطبوعات (لها شكل كتاب) عن المُكرَّمين، تحتوي على نصٍّ تبجيلي، أو حوار مع الشخصية المُكرَّمة، يخلو من أي سجال نقدي جدّي. المهرجانات الأجنبية تكتفي بمنح المُكرَّم درعاً أو تمثالاً، ثم يُلقي كلمةً، وينتهي كلّ شيء. أحياناً، تُمنح الشخصية المُكرَّمة، إلى جانب التكريم، فرصة لقاء أوسع مع نقّاد وصحافيين سينمائيين وإعلاميين، أو مع جمهور يهتمّ بمتابعة ما ستقوله الشخصية في هذا اللقاء، أو في ما يُعرف بـ"ماستر كلاس".

هذا يحصل في مهرجانات عربية. لكنّ الحضور قليلٌ، وغياب الحوار النقدي يطغى، غالباً. هذه مهرجانات مهووسة بالاستعراض والأضواء. معظمها يختار أكثر من شخصية لتكريمها في لحظةٍ واحدة، من دون سببٍ سينمائي أو ثقافي أو حياتي آنيّ ومباشر، إلا نادراً (في حالة الموت، تُخْتار الشخصية السينمائية الراحلة حديثاً للتكريم بتسرّع فاضح). غالبية المهرجانات الأجنبية تُتقن "فنّ التكريم"، وتُكثِّف لحظة الاحتفاء بالمُكرَّم/المُكرَّمة، وتنتقي الأفضل والأهمّ في كيفية التكريم، بدلاً من الانصراف إلى فعل عابر.

مهرجانات عربية عدّة، تُقام غالبيتها في مصر، تُصدر مطبوعاتٍ عن المُكرَّمين/المُكرَّمات، لن تُفيد بأكثر من تفاصيل، تحتاج إلى تدقيق للتثبّت من صحّة المعلومات الواردة فيها؛ أو أنّها تُفيد، إنْ تكن المطبوعة حواراً، وهذا صالحٌ رغم منحاه الإيجابي البحت، فالكلام للمُكرَّم/المُكرَّمة وثيقةٌ يستفاد منها لاحقاً، في مهن النقد والصحافة السينمائية والإعلام، إنْ كان هناك عاملون/عاملات في هذه المهن يكترثون بها، أو يقرأون مطبوعات كهذه أو غيرها، أصلاً.

"فنّ التكريم" في مهرجانات سينمائية (وغير سينمائية) عربية يحتاج إلى نقاشٍ، عن لحظة التكريم وسببه، أساساً. هناك عشوائية في الاختيار، ووفرةٌ، غير مُبرَّرة وغير مفهومة، من الشخصيات المُكرَّمة، في كلّ دورة. يندر أنْ تكون الشخصية العربية، المُكرَّمة في مهرجان سينمائي عربي، متمكّنة من قولٍ مُفيد، يخرج على المُعتاد في حوارات إعلامية وصحافية، يغلب عليها سرد حكايات أكثر بكثير من نقاشٍ، يُفترض به أنْ يتناول دوراً وفيلماً وآلية اشتغال، وعلاقات ـ ثقافية وفنية وسينمائية وشخصية ـ مع عاملين/عاملات في المهنة، وقضايا تخصّ أناساً وبلداناً ومجتمعات، تمتلك كلّها عمقاً في الرؤية والتحليل، أو صدقاً في كشف شيءٍ منها والبوح به علناً.

هذا غير شاملٍ الجميع. سينمائيون/سينمائيات عربٌ عديدون، تُكرِّمهم مهرجانات عدّة، يمتلكون عمقاً معرفياً، ووعياً ثقافياً وجمالياً، ومواقف واضحة من مسائل عربية مختلفة، ويُثيرون، في أحاديثهم، متعة الاستماع والتنبّه، ويرون في الحوار/النقاش حيّزاً لمزيدٍ من التساؤلات، وتحريضاً على بحثٍ دائمٍ عن إجابات ومعرفة. لكنّ هذا نادرٌ.

المهرجانات السينمائية الأجنبية تُدرك أنّ الاختصار أكثر إفادة وأهمّ. تختار شخصية لتكريمها، والسبب جاهزٌ غالباً وإنْ يكن غير مباشر (أي أنّ التكريم غير مرتبطٍ بحدثٍ آنيّ وراهن، بل بمسار ترى إدارات مهرجانات عدّة أنْ الوقت مناسِبٌ لتكريم صاحبه). بعد تبليغ الشخصية وموافقتها (أحياناً، ينبثق الاعتذار/التأجيل من ظرفٍ مُحدّد، كأنْ تكون الشخصية منشغلةٌ بعملٍ أو بمناسبة خاصة، أو أنْ يكون للشخصية موقفٌ من التكريم والمهرجان، وهذا يحدث قليلاً)، يَصدُر بيانٌ مقتضب، يكشف سبب التكريم واختيار الشخصية. بيان ذو نصّ صغير الحجم، واضح المعنى، مباشر في تحديد ما يصبو إلى تحديده، من دون ثرثرة إنشائية انفعالية؛ وفيه شيءٌ من سيرة مهنية وحياتية.

الإنشائي الانفعالي يحصل في الغرب أحياناً، لكنْ في لحظة واحدة، تتمثّل باستلام الشخصية درع التكريم أو تمثاله. كلمة الشخصية المُكرَّمة تميل، غالباً، إلى الإنشائي الانفعالي، لكنّها مختصرة للغاية، والكلام المعمَّق والتحليلي يحصل في لقاءات مباشرة مع راغبين فيها، ومهتمّين بها وبالشخصية المُكرَّمة وبسيرتها المهنية، في أمكنة خاصة بلقاءات كتلك، تكون مُثمرة غالباً. مثلٌ على ذلك: توم كروز في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان كانّ. دعوته متأتية من ترويجٍ لجديده "توب غَن: مافريك" (2022) لجوزف كوسنسكي، والمفاجأة كامنةٌ في منحه "سعفة شرفية" غير متوقّعة، تكريماً لـ40 عاماً من العمل السينمائيّ. اللاحق أهمّ: لقاء مع راغبين ومهتمين يتّسم بصدق المُكرَّم وشفافيته، وبتمكّنه من سبر أغوار تجربةٍ مليئة بأفلامٍ، مختلفة الأنواع والمعالجات والمضامين وأساليب الشغل، وبعضها لمخرجين كبار، أمثال أوليفر ستون ومارتن سكورسيزي وفرنسيس فورد كوبولا وبول توماس أندرسن وبراين دي بالما وستانلي كوبريك ومايكل مانّ. أما دعوة سيلفستر ستالون، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) للمهرجان نفسه، فتندرج في إطار التكريم أيضاً، وإنْ يكمن أصل الدعوة في عرضٍ خاص بالمهرجان لـ"مَشاهد" متفرّقة من جديده، حينها، "رامبو 5: دم أخير" (2019) لأدريان غرونبيرغ، ثم لقاء مع راغبين ومهتمّين، يغوص في سيرته وشخصيته وطريقة اشتغاله وأفكاره وانفعالاته، وهذا كلّه يرويه ستالون بصدق وشفافية وصراحة.

يتّخذ التكريم، عربياً، شكلاً آخر أحياناً، يتمثّل بمنح شخصية سينمائية جائزةً، خارج إطار المهرجانات السينمائية. جائزة تمنحها السلطة الحاكمة في هذا البلد أو ذاك، والشخصية المختارة للتكريم توافق، إذْ إنّ رفض جائزة ممنوحة من سلطة عربية يضع الشخصية في موقفٍ صعبٍ مع تلك السلطة، الرافضة أصلاً لكلّ مُعارضةٍ لها، بأشكالها (المعارضة) كلّها. يندر لشخصية عربية، أدبية أو فنية أو علمية، أنْ ترفض "جائزة دولة"، فقبولها أشبه بواجبٍ وطنيّ مفروض على الشخصية القيام به، وشُكر السلطة على اهتمامها بالثقافي، بكافة إنتاجاته. هذا غير شاملٍ الجميع، بالتأكيد، وإنْ تكن الغلبة له.

هذه مسألة حسّاسة، فالعلاقة بين الثقافي والسلطوي في الدول العربية غير سليمةٍ، وما تفعله السلطة إزاء الثقافة، بإنتاجاتها العربية كلّها، معروفٌ بسلبياته الأكثر عدداً من إيجابيته. علاقة المثقف/الفنان بالسلطة غير سوية، خاصة أنّ مثقفين وفنانين عديدين يخضعون لأهواء السلطة، ويقبلون بمطالبها، ويتحمّسون لجوائزها، خاصة إنْ تكن الجوائز مالية أيضاً. هذا غير شاملٍ الجميع، أيضاً.

التكريم، في مهرجان أو عبر جائزة (وإنْ تكن الجائزة رسمية، أي ممنوحة، لأي سببٍ، من سلطةٍ حاكمة)، حالةٌ يُمكن اعتبارها عابرة وغير ذي فائدة، لكنّها ـ في الواقع ـ تعبِّر عن مزاجٍ ووعي وثقافةٍ ما، خاصة في دول عربية، تبغي سلطاتها الحاكمة إلحاق الفنّ والثقافة بها، بل مجمل الاجتماع والاقتصاد والإعلام، والحياة برمّتها.

المساهمون