تختار المنصّة اللبنانية "أفلامنا" موضوع العائلة في برنامج شهر أغسطس/آب 2022. تعرض على موقعها الإلكتروني (aflamuna.online) 5 أفلام وثائقية لبنانية، مُنتجة بين عامي 2009 و2012: "يا عمري" (2017، 82 دقيقة) لهادي زكّاك، و"بيروت عالموس" (2010، 75 دقيقة) لزينة صفير، و"أبي يُشبه عبد الناصر" (2012، 33 دقيقة) لفرح قاسم، و"1958" (2009، 66 دقيقة) لغسان سلهب، و"يوميات كلب طائر" (2014، 75 دقيقة) لباسم فيّاض.
موضوعٌ حاضرٌ بفعاليةٍ بصرية في النتاج السينمائي اللبناني، تجمع (الفعالية) اشتغالات سينمائية بوقائع سِيَر ذاتية لأهلٍ وأقارب، وتنفتح ـ عبرها ومعها ـ على الجماعيّ والتاريخي، وعلى ذاكرة مدينة وبلدٍ وبيئة وحكاياتٍ. موضوعٌ يُثير اهتماماً نقدياً، لبنانياً وعربياً، وهذا غير متغاضٍ عن حضور العائلة في وثائقيات عربية، نواتها الأساسية متمثّلة بانفتاح الخاص/الذاتي على العام/الجماعي، غالباً.
الانفتاح هذا معنيّ بجانبٍ أو آخر، وأحياناً يلتزم أكثر من جانب. أفلامٌ تكتفي بالذاتي/الحميمي، مع شيءٍ قليلٍ من ذكرياتٍ مرتبطة بجماعة وبيئة واجتماع، وإن من دون إسرافٍ في مقاربة الجماعة/البيئة/الاجتماع. أفلامٌ أخرى تنبثق من الذاتي البحت، لتقول بعض الحاصل في أمكنةٍ وتواريخٍ ومحطّات، كأحداث وحكايات. هذا كلّه يحتاج إلى بحثٍ نقدي أو أكثر، لما يحتويه من ركائز غنيّة بمعطياتٍ وتفاصيل وسرديات ومرويات، قابلة كلّها لتحليلٍ يعتمد علوماً إنسانية مختلفة، ونقداً سينمائياً يحتمله النتاج السينمائي المعني بهذا الموضوع.
"تزخر السينما الوثائقية بالمواضيع العائلية الحميمة. نجد ذلك، خاصة، في المشهد الوثائقي اللبناني المعاصر. يصنع مخرجون أفلاماً حميمة تخصّهم هم قبل غيرهم، يقدّمونها إلى جمهور قادر على التفاعل معها، والتأثر بالقصص الشخصية لصناعها"، تكتب رينيه عويط، مديرة برنامج "أفلامنا"، في تقديم "صُور عائلية" (النص الكامل منشورٌ على موقع المنصّة)، مُضيفةً أنّ الفيلم العربي يفتح، منذ أعوام عدّة، مساحة أرحب من قبل لمواضيع حميمة خاصة: "غالباً ما نلمس تآلفاً لدى الجمهور مع ذلك". تُشير عويط إلى أنّ مخرجين عديدين، ممن يختارون مقاربة مواضيع كهذه، "يوجّهون نظرهم إلى أعماقهم، ويتناولون مواضيع شخصية حسّاسة، ومُعقّدة أحياناً".
الحميميّ أساسيّ، فالتوغّل في شخصية أبٍ (فيلما زينة صفير وفرح قاسم) أو أم (1958) أو جدّة (يا عمري) أو عائلة بكاملها (باسم فياض)، سينمائياً وإنسانياً وانفعالياً على الأقلّ، غير سهلٍ من دون المسّ بعمق ذاتٍ وروح (الشخصية)، وبما يحمله المخرج/المخرجة من مشاعر وتفكير وحساسيات في علاقتهما بتلك الشخصية. الذاتي البحت أو شبه المطلق كامنٌ في "يا عمري"، المرافق جدّةَ زكاك في أيامها الأخيرة، مستعيداً معها ماضياً وحكاياتٍ وتفاصيل خاصة بها وبعائلتها، ولا بأس بشيءٍ من العامّ، فالفصل بين الذاتي والعام غير صائبٍ دائماً. البدء بالذاتي البحت أو شبه المطلق أساس "بيروت عالموس" و"أبي يُشبه عبد الناصر" و"1958". لكنّ شيئاً أو أكثر يدفع إلى الذهاب بعيداً في ذات بلدٍ وتاريخه وموقعه وذاكرته، أو إلى البحث عن معالم فترة عربية، من خلال تشابه شكليّ يقود قاسم إلى تفكيك بعض المخبّأ فيها وفي ارتباطها بوالدها.
"يوميات كلب طائر" مختلفٌ، أسلوب اشتغال وآلية مقاربة. التجريب البصريّ والسردي يقترب من "1958" (عنوان فيلم سلهب يجمع بين عام ولادته وحربٍ أهلية لبنانية يشهدها العام نفسه، تنتهي سريعاً). المقاربة منبثقة من "وسواس القلق القهري"، الذي يعانيه المخرج وكلبه معاً. هذا كافٍ لجولةٍ في مسام روح وجسد، وفي اضطرابات وآلام، وفي علاقات قائمة بين أفراد العائلة، الأب والأم والشقيقتان وأولادهما. الفيلمان يكتبان، بصور وكلام، شيئاً من يوميات شخصين يستعيدان، كلّ بأسلوبه وتأمّلاته وهواجسه، حياة وأحاسيس، يقرآن معها راهناً، لكلّ منهما فيه عيشٌ وارتباكات وتساؤلات واشتغالات.
لكنْ، في مقابل انفتاح "1958" على العام، لما في تلك السنة من أحداثٍ مُرافقة لولادة غسان سلهب، ينغلق "يوميات كلب طائر" على الذاتيّ والحميمي أكثر، وإن مع انفتاح قليل، بشكلٍ أو بآخر، على العام، المخفَّف كثيراً.
لوالد زينة صفير، إيلي، عملٌ يومي (صالون حلاقة) يُتيح له، لأعوامٍ طويلة، إمكانية معاينة مدينةٍ وتقلّباتها، في السياسة والاجتماع والحياة اليومية، فتلتقطه صفير في "بيروت عالموس"، جاعلةً من سيرة الأب مرآةَ مدينة، ومن حكايات المدينة وناسها امتداداً لسيرة الأب. هذا لن يحول دون توغّل الابنة/المخرجة في معنى علاقتها بوالدها، فالشخصيّ حاضرٌ. هذا الأخير مدخل لفرح قاسم إلى عالمٍ، تكشف شيئاً منه أمام كاميرتها، مع كشفها شيئاً من علاقتها بوالدها مصطفى، في منزل العائلة في طرابلس (شمالي لبنان)، خاصة بعد وفاة الزوجة/الأم. الشبه بين والدها وجمال عبد الناصر مفتاحٌ لتلك الرحلة الحميمة، وإطلالة على وقائع قليلة يُدركها الأب في حياته، فتدخل إلى عمق المنزل بفضل سرد سلسٍ.
كلّ فيلمٍ من الأفلام الـ5، المختارة في برنامج "صُور عائلية"، كفيلٌ بمنح المُهتمّ متعة مشاهدة واستماع.