"سعاد" للمصرية آيتن أمين: سلاسة سينمائيّة تكشف عورات ومخاوف

26 مارس 2021
بسنت أحمد وبسملة الغيّاش: صورة وداع (Vivid Reels، البرليناله 71)
+ الخط -

 

يحضر الرجل، في "سُعاد" (إنتاج مشترك بين مصر وتونس وألمانيا، 2021، 96 دقيقة)، للمصرية آيتن أمين، وإنْ يكنْ حضوره قليلاً للغاية. يظهر كأبٍ، ثم كحبيب. هذا كافٍ، رغم أنّ لحضوره وقعاً أكبر وأعنف، وإنْ بشكلٍ مواربٍ. لا سلطة ذكورية ظاهرة ومباشرة. لا تعنيف ولا قمع. القسوة تظهر في فشل علاقة حبّ، أو في عزلةٍ، أو في ضغطٍ حادٍ في الاجتماع والانفعال، وفي علاقات قائمة في عائلة أو بين شابات، تحاول كلّ واحدةٍ منها أنْ تعيش وتعشق وتتحدّى وتبوح، بصمت أو حركة أو ملمح أو فعل، والفعل قاسٍ.

تريد سعاد (بسنت أحمد) مُتنفّساً، فكلّ شيء حولها يضيق إلى حدّ الاختناق. لن يظهر الضيق عليها، ففي وجهها ابتسامة ومرح وهدوء. هذا ستارٌ يكشف، لاحقاً، عن نقيضٍ كبيرٍ للابتسامة والمرح والهدوء. هناك فشلٌ تعانيه، رغم محاولتها التغلّب عليه. ملاحقة الكاميرا (مجد نادر) لها أقرب إلى توثيقٍ سينمائيّ ليومياتها وتفاصيل عيشها وانفعالاتها وتفكيرها. كأنّ الكاميرا مكتفية بمرافقتها، وإنْ تخترق أحياناً بعض ذاتها وروحها، بالتقاط ملامح منها، ونبضٍ لها، وتصرّفات تسم حضورها وموقعها وسلوكها.

لا ادّعاءات ولا تصنّع ولا مكابرة. البساطة سمة أساسية، تكاد توحي بأنْ لا شيء عميقاً ولا شيء مفيداً ولا شيء يُحرِّض على شيء. بساطة تُحتَمَل، مع توغّل النصّ (آيتن أمين ومحمود عزت) في الهوامش الكثيرة، إذْ يبدو "سُعاد" غير معنيّ أو غير مكترثٍ أو غير مهموم بمتنٍ وأساس، فالهوامش تُحفِّز الكتابة على تبيان ما تبغيه أمين من سرد حكاية شابّة، اسمها سعاد. كأنّ أمين غير راغبةٍ في أكثر من تصوير دقيق لتفاصيل وزوايا وحالاتٍ، وهذا كافٍ لها لصُنع فيلمٍ، يمتلك شفافية وصدقاً وعفوية، تجعله مرايا شفّافة وقاسية في انعكاس عنف الحياة والخوف والقلاقل في ذاتٍ وروح وجسدٍ.

كأنّ أمين تتآمر، سينمائياً، مع الكاميرا، فتمنحها حرية تحرّك في الاتجاهات كلّها لاقتناص كلّ تفصيلٍ، قبل غربلة التفاصيل في توليفٍ (خالد مؤيّد) يُنتج فيلماً يُناقش عيشاً بصُور مستلّة من وقائع حيّة، من دون أي تلميحٍ إلى كون القصّة واقعية أو حقيقية. مع هذا، تبدو المتتاليات السردية كأنّها مقتبسة من واقعٍ وحقائق، فأحوال سعاد وانفعالاتها، وأحوال قريبات لها ومقرّبات منها وانفعالاتهنّ، شبيهةٌ بوقائع جمّة، تقتنصها أمين سينمائياً، فتُنجز "سُعاد" كصائغٍ يحترف المواربة والاحتيال، قبل إنجاز تحفته.

التُحفة هنا تعني جوهر فيلمٍ بسيطٍ، يرتكز أساساً على تلك الهوامش والزوايا، المصاغة بصرياً بشفافية وجمالية محبّبتين. اللقطات المقرّبة تدخل عوالم منغلقة على نفسها في ذات سعاد وروحها ومسارها، وفي علاقاتها بآخرين وأخريات، في منزل العائلة وخارجه. البيئة، مكاناً واجتماعاً ونمط حياة، غير مُطالبة بكشفٍ مباشر عن موقعها واسمها، فالعالم الذي يشهد يوميات سُعاد (19 عاماً) يتوزّع على باصٍ وشرفة منزلٍ وبعض غرفه وأمكنته الضيّقة، وعلى هاتفٍ ذكيّ يمنحها مَخرَجاً/ مدخلاً إلى وسائل تواصل اجتماعي. المرآة وسيلة تمنحها قدرة على اختبار علاقتها بجسدها، أو ربما اختبار جسدها وانفلاشه على صُور ثابتةٍ، يُراد لها أنْ تكون روح الشابّة ورغباتها المدفونة.

 

 

شقيقة سُعاد تصغرها بأعوامٍ قليلة. رباب (بسملة الغايش) تتماهى بها، كأنّها تطمح إلى تحقيق حدٍّ من التشبّه بها. ففي روح سُعاد نَفَسٌ متمرّد، تسعى رباب إليه. الاجتماع ضاغط. الانفعال غير متمكّن من تلبية رغبات تعتمل في سُعاد، فتشعر رباب بها. تواصلٌ افتراضي مع أحمد (حسين غانم) تراه منفذاً لها، وتُكمله رباب لاحقاً، بعد تنفيذ سُعاد قراراً يُغيّر سياق الحكاية، وينفتح أكثر على مخبّأ ومُبطّن. لاحقاً، تلتقي رباب بأحمد في الإسكندرية، في لقطات متتالية تبدو كأنّها لوحاتٍ منفصلة، لكنّها تتكامل في متابعة حكاية سُعاد، في غيابها. في المدينة المتوسطية، تكشف آيتن أمين شيئاً من عالمٍ يتناقض، كلّياً، مع عالم سُعاد، اجتماعياً واقتصادياً وحياتياً. سُعاد غائبة، ورباب تنتظر أحمد في سيارة صديقه، كي يُنهي زيارة في منزل أهل خطيبته.

بتبسيطٍ وسلاسة، تروي آيتن أمين مصائب وتخبّطات وأهوالاً تعيشها سُعاد. تبسيط يُفكِّك أحوالاً مرتبطة بشاباتٍ يعشن على حافة هاوية، أو في انغلاق عزلة، رغم مظاهر تمرّد ورفضٍ وانقلابٍ، تتمثّل بمَلبَسٍ أو نبرة أو تفكيرٍ أو قولٍ أو ممارسة. أمين تُتقن تفكيك عالم شبابيّ يعيش زمن تواصلٍ افتراضيّ في بيئة تتشدّد، غالباً، في التزام قواعد معيّنة لعيشٍ يومي.

تبسيطٌ وسلاسة يُذكّران بـ"فيلا 69" (2013)، أول روائيّ طويل لها، بعد "راجلها" (روائي قصير، 2009) و"تحرير 2011: الطيّب والشرس والسياسي" (2011) الوثائقي المُنجز مع تامر عزّت وعمرو سلامة (لها فيه القسم الثاني: الشرس). "فيلا 69" يتشكّل بمتتاليات مشهديّة هادئة وعاديّة، قبل كشفها عمق خرابٍ وتوتّر وتبدّلات في الفرد والبيئة والعلاقات. هذا يحضر في "الشرس" رغم وثائقيّته، فلقاءاتها رجال شرطة في مرحلة لاحقة على "ثورة 25 يناير" (2011) منبثقة من سردٍ مبسّط لحكاياتٍ تُعرّي بعض بيئة وناسها.

مع "سُعاد" ـ المُشارك في "بانوراما" الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائيّ"، المُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021، بعد اختياره رسمياً للدورة الـ73 لمهرجان "كانّ" السينمائي، قبل إلغائها بسبب كورونا ـ تبدو آيتن أمين، المهمومة بوضع المرأة في "راجلها" (مقتبس عن قصّة لأهداف سويف) من دون أيّ خطابٍ نسوي، كأنّها تخطو خطوة إضافيّة إلى جوهر السينما: سردٌ بصريّ لحكاياتٍ، تُصيب المرء في أحواله وانفعالاته وتأمّلاته، فتضعه أمام خياراتٍ، بعد عيشه اختباراتٍ وتحدّيات.

المساهمون