"ذا ماتريكس الانبعاث" للانا وتشوسكي: "ديجا فو": المصفوفة تجترّ نفسها

07 يناير 2022
لانا وتشوسكي بين كارّي ـ آنّ موس وكيانو ريفيز ترويجاً لـ"الانبعاث" (كيلي سالّيفان/Getty)
+ الخط -

عام 1999، حقّق الأخوان لاري وآندي وتشوسكي (قبل أنْ يتحوّلا جنسياً إلى لانا وليلي عامي 2010 و2016 تباعاً) "ذا ماتريكس"، الفيلم الذي طبع الثقافة الشعبية بتأثير لا يندمل، دخلت بموجبه تعابير جديدة (المصفوفة، الخلل...) معجمَ الكلمات المتداولة في الحياة اليومية، وغذّت صُوَرٌ مؤثّرة (الحبّتان الزرقاء والحمراء، سيل الأرقام الخضراء...) مخيال آلاف الأعمال التي تسائل الحدّ الفاصل بين الواقعين، المُعاش والمفترض، من كلّ الأجناس الفنية، إلى حدّ أن كثيرين اعتبروه العمل الفنّي الذي قَبَض على روح القرن الـ21، عبر استشراف مجتمع الاتصال الفائق، وسطوة الواقع الافتراضي.

جزآن جديدان، "ذا ماتريكس الاستعادة" و"ذا ماتريكس الثورة"، أنجزا عام 2003، ليُكمِلا سيرة نيو (كيانو ريفز)، الذي تحوّل من موظّف برمجيات حاسوب مُكتئب، يغرق شجنه في الإبحار على الشبكة المعلوماتية، يدعى توماس أندرسن، إلى قائد تحرير البشر من سطوة الآلات، التي نجحت في تسخيره في حالة سبات دائم، لإنتاج الطاقة التي توظِّف جزءاً منها لتشغيل مصفوفة، توهم البشر المنوّمين بعالم جذّاب، لكنّه "غير حقيقي"، لانتفاء حرية الاختيار فيه.

حربٌ بين نيو ومورفيوس (لورنس فيشبورن) وترينِتي (كاري ـ آن موس) ورفاقهم، الذين يكوّنون جبهة مقاومة وحرية من جهة، وقوى الطّمس والتغييب الاستعبادي، بقيادة العميل المعلوماتي ـ ذي الانتشار الفيروسي ـ سميث (هوغو ويفنغ) من جهة أخرى. حربٌ أجاد الثنائي وتشوسكي ضبطها على إيقاع مثالي، بفضل قدرتهما الكبيرة على الابتكار البصري، وعلى سردٍ فريد ينهل، بخفّة لاعب السيرك الذي يلهو بكرات عدّة، من مصادر متعدّدة وبالغة الاختلاف، كالإنجيل والإرث البوذي والتراجيديا الإغريقية ـ الرومانية والكونغ ـ فو، والخيال العلمي المتحدّر من ثقافة الـ"سايبربانك".

في الجزء الرابع من الساغا، المعنون بـ"ذا ماتريكس الانبعاث" (2021)، الذي تكفّلت لانا وتشوسكي بمفردها بإخراجه، يظهر أندرسن فاقداً الذاكرة، ومُطوّراً ناجحاً لألعاب فيديو، من دون أن ينعكس نجاحه على حياته. اضطرابٌ نفسي يُغرقه في ابتلاع الحبوب الزرقاء المُهدّئة، وفي تطوير جزء رابع من ساغا لعبة تدعى، أيضاً، "ماتريكس"، يُخمِّن أفراد من فريقه ما ينبغي أنْ يجمعه ويُفرّقه عن جزء أول، يراه بعضهم بمثابة "بلوكباستر حول الرأسمالية الرقمية"، وآخرون "استعارة دماغية للكريبتو ـ فاشية".

هذا يُفصح عن نزعة طافحة إلى جمالية التبئير المرآوي، تعبر الفيلم بأكمله، منذ التساؤلات حول شكل وروح اللعبة الجديدة، التي تحيل إلى انشغال لانا وتشوسكي نفسها بالتصوّر الذي ينبغي أن يُبنى الفيلم عليه، ليخرج بشكل وفيّ لروح ساغا "ذا ماتريكس"، في ميدان سينمائي زاخر بأفلام الـ"بلوكباستر" المتنافسة في التنميط السردي، التي تصوّر مَشاهد الحركة المطروقة حدّ الاستنزاف، بحثاً عن تأمين أرباح كبيرة في شبابيك التذاكر. لكنّ موطن التبئير المرآوي الرئيسي في الفيلم يكمن في مفهوم "ديجا فو" (سبق الرؤية)، الذي يمثّل في الجزء الأول تفصيلاً مرئياً (اهتزاز صورة القطّ الأسود)، يُنبئ بخللٍ في المصفوفة، وبالتالي قرب هجوم العملاء المعلوماتيين، ليصبح هنا مفهوماً مركزياً، يُترجم اغتراب نيو في حياته الثانية في المصفوفة، ويستغله المحلّل (نيل باتريك هاريس)، الشخصية الجديدة ذات الأهواء الميزوجينية.

 

 

يوهم المحلّل نيو بأنّه طبيبه النفسيّ، لينسف كلّ محاولات مورفيوس ورفيقته باغس (أداء لافت للانتباه، بفضل الإحكام والسلاسة، لجيسيكا هنويك) لبعث "النبي المخلّص". لم يتوفّق يحيى عبد المتين الثاني في تجسيد كاريزما مورفيوس، والإلهام بشعور الاطمئنان الذي يحثّ على التعاطف، الذي كان يشعّ منه، بينما لم تتّسم شخصية العجوز نيوبي (جادا بينكت سميث) بالإقناع، شكلاً وأداءً. أمّا جوناثان غروف، فلم تسعفه موهبته الأكيدة في تعويض المؤدّى الآسر لهوغو ويفين، بسوداويته وقتامة تصوّره الكاره للبشر، في دور العميل سميث.

للبقاء في نوع أفلام الـ"ديستوبيا"، يقترب الفيلم من نموذج "نظرية الصفر" (2013)، الذي مثّل فشل تيري غيليام في تقديم نسخة من رائعته "برازيل" (1985)، ومن نموذج "ماد ماكس: فيوري رود" (2015)، حيث نجح جورج ميلر في بعث ساغا "فارس الخيول المعدنية" من رمادها، وسط تحدّيات مفعمة بأسئلة الإيكولوجيا والتطرّف والنسوية، على خلفية وسترن شفقي.

عزف شبه كامل على الأوتار نفسها للسّرد، والتي شكلت عصب السيناريو الأصلي لـ"ذا ماتريكس"، مع اختيار قلب الأدوار بين نيو ومحبوبته ترينِتي، ليغدو الرهان في السعي إلى انتشال الأخيرة من محلول حجيرة استخلاص الطاقة اللزج، ما يعكس رغبة المخرجة وتشوسكي في تحيين خطاب الفيلم بروح النسوية، التي تُشكّل إحدى سمات العصر، بينما يرى البعض أنّ طغيان التحليل النفسي والحوارات الطويلة على الحكي، يفصح عن ميل لانا وتشوسكي إلى تحقيق نوع من المصارحة مع ذاتها المتحوّلة جنسياً، وصدمة فقدان والديها، كما صرّحت بخصوص دواعي قبولها إنجاز جزء جديد من الساغا، بعد انصرام زهاء 20 عاماً.

أليست كلّ الأفلام، في نهاية المطاف، ضربا من التحليل النفسي الذاتي، وفق اعتقاد إنغمار برغمان؟

"لا شيء يُهدّئ القلق أفضل من قليل من النوستالجيا"، يُسرّ مورفيوس. ترخي النوستالجيا ظلالها الثقيلة على الفيلم، من خلال لقطات الاستعادة الخاطفة التي تنشأ على شكل "ديجا فو" في ذهن نيو، وتصل الحكي بأبرز لحظات الجزء الأول. هناك أيضاً نزعة واضحة إلى تقديم تحية إلى أجواء ومشاهد حركة أساسية من هذا الجزء، مثل تحدّي مورفيوس لنيو على حلبة الكونغ ـ فو، لحثّه على استرجاع قدراته الكامنة، ومواجهة نيو وترينِتي هجوم الهيليكوبتر فوق سطح المبنى الزجاجي.

تحايا لا تخطئ طريقها إلى قلب المُشاهد، خاصّة المُتيّم اللامشروط بعوالم الساغا. لكنّها تنتهي بترك انطباع مؤسف وعقيم بانكفاء السرد على ذاته، وبأنّ المصفوفة تجترّ نفسها.

المساهمون