"ذا فرنش ديسباتش": رحلة حسيّة في أقاصي الشّغف بالكتابة

27 ديسمبر 2021
ليا سيدو ووس أندرسن: تكريم العمل الصحافي وفرنسا (ستفان كاردينالي/كوربيس/Getty)
+ الخط -

لطالما اقتبست السينما مواضيعها من مقالات أو تحقيقات صحافية، إنْ تكن تحقيقات سياسية، كـ"كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلان ج. باكولا، عن "قضيّة ووترغيت"؛ أو قضايا اجتماعية، كـ"المطّلع (The Insider)" لمايكل مانّ (1999)، الذي تطرّق إلى دسائس شركات التّبغ؛ أو أخبار الحوادث والجرائم، على غرار مقالة ألهمت عبّاس كيارستمي لتحقيق "كلوز آب" (1990)، انطلاقاً من خبر القبض على رجل ينتحل صفة المخرج محسن مخملباف. لكنْ، أنْ يجعل فيلمٌ من مقالة صحافية مرتكزاً لبنية السّرد وجمالية الإخراج، فذلك يتطلّب التفرّد الفائق لوِسْ أندرسن ونبوغه العبقري في صوغ الفيلم ـ العالَم.

يروي "ذا فرنش ديسباتش (The French Dispatch)"، الفيلم الطويل العاشر لأندرسن، قصّة آرثر هاوِتزر جونيور (بِلْ موراي)، رئيس تحرير مغامرٍ ومتفانٍ، يقرّر تحويل ملحق الأحد للجريدة الأميركية "ذي إيفنينغ صَن" (بلدة "ليبرتي"، مقاطعة "مونتغمري"، كنساس)، المملوكة لوالده باسم "ذا فرنش ديسباتش"، إلى مجلة تنشر قصصاً من الحياة الاجتماعية لبلدة فرنسية متخيّلة، "أونّوي ـ سور ـ بلازيه" (Ennui-Sur-Blase، مللٌ على ضجر)، جمَع المخرج شملها من فضاءات "أنغوليم" في غرب فرنسا، لكنّها توحي بباريس في خمسينيات القرن الـ20 وستينياته. يلقى آرثر هاوِتزر حتفه إثر نوبة قلبية، فتجتمع هيئة التحرير لتصوغ عدداً خاصاً يُهدى إلى ذكراه، ويمثّل وفقاً لوصيّته آخر إصدارات المجلة.

تتجلّى أول مظاهر ذاتية هذا العمل في سعي المخرج إلى "إسداء تكريم للعمل الصحافي"، وردّ الجميل إلى مجلة "ذا نيويوركر" خاصة، لإدمانه على قراءتها منذ طفولته، وجمع أعدادها، جاعلاً منها نموذجاً لتبويب "ذا فرنش ديسباتش"، وروح اشتغال طاقم تحريرها، القائم على توخّي الصدق والدقة وفحص الحقائق، بغية نقل تجارب من قلب المعيش الحضري، ومن منابع الثقافة الشعبية الأميركية، وتضجّ بالحياة الملهمة لقرائها، ما جعل صحافييها الأفضل في مجال تخصّصهم. قيمٌ يمكن أنْ تنسحب على اشتغال وِس أندرسن أيضاً، بحكم هوسه بجمالية التفاصيل، وتحرّي الكمال، صورةً وصوتاً، وجمع أفضل طاقات التمثيل لتأدية أدوار أفلامه.

من دون نسيان أنّ الفيلم ينضح بالفرانكوفيلية، ما جعله أيضاً رسالة غزلٍ، يكتبها مخرج "السيد فوكس الرائع" (2009)، ليس فقط في وطنه بالتبنّي فرنسا، وتحديداً باريس حيث يُقيم منذ أعوام، بل في عشقه للسينما الفرنسية أيضاً، من خلال تحيات "سينيفيلية" يُمرّرها بين الفينة والأخرى، على غرار تحية جاك تاتي (عرّاب التفرّد المطلق بامتياز)، في مشهد المقرّ الأول للمجلّة، الذي يحاكي إقامة السيد هولو في "خالي" (1958)، حيث يظهر هاوِتزر من فجوات المبنى تباعاً، بينما ينزل درجات السُلّم.

وفاءً لجمالية الفصول والكتابة الأنيقة على الشاشة، التي تُهيكل أفلاماً عدّة سابقة لأندرسن، ينبني السرد على نسق قصص مختلفة (أنطولوجيا)، تقتفي حكاية المقالات الأربع التي تُشكّل العدد الأخير للمجلة، أُولاها مقالةٌ قصيرة تكون ـ نوعاً ما ـ توطئة للأجواء، بتقديمها فضاء "أونّوي ـ سور ـ بلازيه" بعيني مراسل غريب الأطوار، يُدعى أوربْسِنت سازورك (أوين ويلسن)، يطوف البلدة على دراجة هوائية، من دون أن يحجب عنّا أحياءها الخلفية، أو جثث المنتحرين المنتَشَلة كلّ صباح من نهرها الهادئ. وسيلة ذكية من المخرج ليعزف، منذ البداية، نغمة المزاوجة الفارقة، القابعة في قلب أسلوبه، بين الديكور الحالم وألوان الباستيل المفعمة بالأمل والتفاؤل من جهة، وثيمات الفيلم التي لا تخلو من القتامة، من جهة ثانية.

يظهر هذا الجانب بشكل أوضح في الفصل الثاني، الأطول والأكثر إبداعاً. فيه، تروي الناقدة الفنية ج. ك. أل. بيرنسِن (تيلدا سوينتن) قصّة مقالها عن الفنان التشكيلي موزِس روزنتالر (بينيشيو دِل تورو)، الذي يشقّ طريقه نحو الشهرة والمجد من داخل السجن، بعد ارتكابه جريمة قتلٍ في لحظة غضبٍ. يُدين روزنتالر بالفضل في ذلك لملهمته ومحبوبته سيمون (ليا سيدو)، التي تقف كموديل للوحاته، رغم أنّها المسؤولة عن فريق الحراسة في السجن.

 

 

في هذا الفصل، يعتمد أندرسن على جمالية الأسود والأبيض لالتقاط تراجيديا الفنان التشكيلي، المشتّت بين أفكاره السوداوية وحساسية الإبداع، ويطرح أسئلة أخلاقية جوهرية عن الجدلية بين مثالية الفنّ التشكيلي ومغريات المضاربة المالية الكامنة في سوقه، من خلال شخصية الوسيط الفني جوليان كِدازيو (إدريان برودي)، الذي يفعل كلّ شيء ليرفع أسهم روزنتالر، مقتحماً عليه حرمة الإبداع، فيتركّز الصراع بينهما في مشهد مجنون، ليلة انعقاد معرض تشكيلي سرّي في السجن.

في لقطة فريدة، تُترجم مدى ثقة وِسْ أندرسن في طاقاته وبلوغه أوج التمكّن، يخرج الممثل توني رَفولوري، الذي يؤدّي دور روزنتالر شاباً، ويُعوّضه دِل تورو، الذي يؤدّي دور الرسام كهلاً، أمام أعين المشاهدين. يُسلّم الأول للثاني شارة السجن، كما يتبادل لاعبا كرة القدم شارة العمادة عند التغيير. شفافية تذهب إلى أبعد حدٍّ بنزعة المخرج إلى اللقطات المجابهة، ونظرات الممثلين (وتوجيههم الكلام أحياناً) نحو الكاميرا الحاضرة في أفلامه السابقة، فيتّخذ من خلالها مسافة من الشخصيات، وبالتالي الطريق الأصعب لخلق التأثير في وجدان المُشاهد، بعيداً عن سهولة التّماهي.

أما الفصل الثالث، فيقتفي مقالةً للمراسلة السياسية الكهلة لوسيندا كريمنتز (فرانسيس ماكدورماند)، تنقل فيها أجواء مظاهرات طلابية، تنسج بصفةٍ بيّنة على منوال أحداث مايو/ أيار 1968، وخيوط مثلّث حبّ يجمعها بزعيم فصيل الطلاب زيفيريلّي (تيموتي شالامي) وغريمته جولييت (لينا خودري). الرهان الظاهر للمثلّث خاتمةٌ، أضافتها كريمنتز إلى بيان ثوري صاغه زيفيريلّي بعد ليلة حبٍّ عابرة أمضتها معه؛ أما باطن الرهان، فشعور حبّ جامحٍ يجذب الشابين، متنكّراً في التنافس على الزعامة، يمثّل انفجاره "إيبيفانيا" حسّية تحبس الأنفاس، تعبّر مجازاً عن تحرّر فرنسا من قيود الديغولية. يحتكر أندرسن أسرار وصفة الـ"إيبيفانيا"، التي جرّبها سابقاً بنجاح في "مونرايز كينغدوم" (2012)، في مشهد الإعلان عن الحبّ أمام البحيرة؛ وفي "فندق بودابست الكبير" (2014)، في مشهد الـ"كاروسيل".

الفصل الرابع والأخير أكثر حركيةً وديناميكيةً، مُمثلاً اللحظة التي تنفجر فيها عادة حبكة أفلام أندرسن، بشكل مبهجٍ، تعزّزه موسيقى ألكسندر دِبْلا، وفق فوضى منظمة تتجسّد غالباً في مشاهد مطاردة وحركة، اختار المخرج هنا أنْ يتمثّلها بسينما تحريك (أنجزها بالتعاون مع شبّان ينشطون على هامش "مهرجان أنغوليم للقصص المصوّرة")، تُحيل إلى عوالم قصص "تانتان". هناك قصّة مقالة في باب "فنون الطبخ"، كتبها روبَك رايت (جيفري رايت)، ناقد أميركي أسود البشرة، يعاني اغتراباً مزدوجاً في "أونّوي ـ سور ـ بلازيه"، وجرّاء اضطهاد مثليّته الجنسية. يسعى رايت إلى إنجاز تحقيق مفصّل عن طبقٍ من اختصاص نسكافاير (ستيف بارك)، الطبّاخ الرئيسي للشرطة، بدعوة من مفوّض الشرطة (ماتيو أمالريك). لكنْ، ما كان مُقرّراً أنْ يكون جلسة تذوّقٍ هادئة على ضوء الشموع، تحوّل إلى مطاردة صاخبة في الشوارع الضيقة، تخلّلها تبادل إطلاق الرصاص بين قوات الشرطة ومحتجزي طفل المحقّق كرهينةٍ، بزعامة مجرمٍ يدعى جو لوفيفر (إدوارد نورتون).

حاجز درامي آخر يفكّ وسْ أندرسن عقدته بمشهد حسّي، حين يدفع نسكافاير شغفه بالطّبخ إلى اعتبار تذوّق السمّ نفسه تجربة ذوقية مثيرة للاهتمام. اختيار جمالي جذريٌّ، يُمكن أن يتّخذه أندرسن على عاتقه من دون تردّد.

المساهمون