"حصى" و"أغنيات للمطر": سينما هندية حداثوية تورِّط مُشاهِدها

02 يوليو 2021
من "حصى" لفينوتراج بي. سي: هاجس الصورة وجمالها (الملف الصحافي)
+ الخط -

يبوح عنوان الفيلم الهندي "أغنيات للمطر" (2021)، برجاءِ بشرٍ للسماء، كي تُنزِل على ربوعهم ماءً. في عنوان "حصى" (2021)، الفائز بجائزة النمر الكبرى في الدورة الـ50 لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، المُقامة افتراضياً بين الأول والسابع من فبراير/ شباط 2021، دلالة ضمنية على حالة قسوة وتَيّبس، تُشبه تلك التي يخلّفها الجفاف في الأرض.

يعقد المنجزان الهنديان مقاربة سينمائية، تؤطّرها من الخارج فكرة الجفاف وشحّ المطر؛ وفي عمقها، تترابط خيوط حكايات تغذّي تصوّراً مُتجذّراً عن فقر الهنود وصراعاتهم مع الطبيعة، ومع أنفسهم.

منذ ظهور السينما الهندية، يتكرّر سرد ظاهرتي الفقر والجوع مراراً، وتتعدّد أشكال معالجتهما، وتختلف أساليب الاشتغال السينمائي عليهما، لتُفرز مع الوقت تيارات واتجاهات جديدة. الفيلمان يُشيران إلى جوانب منهما، ويشيان برغبة سينمائيِّين شابين في تجاوز المراكز السينمائية التقليدية، والابتعاد عنها إلى الأقاليم البعيدة والقصيّة في شبه القارة الهندية.

في روائيّه "حصى" (كتابةً وإخراجاً)، يُقدّم التاميليّ فينوتراج بي. سي تجربة سينمائية حداثوية، هاجسها الصورة وجمالها. أما الحكاية، فتظلّ هامشاً فيها، أو ربما مجرّد ذريعة، يُبرّر بها اشتغاله السينمائي، الطافح بالجمال والسحر، الذي يجعلُ مُنجزَه تحفةً بصرية، تُنسي المُشاهِد أهمية التتابع الزمني لأحداثه، وتُقنعه بقبول تدويرها. عندها، يفقد الشرطُ التقليدي للسرد ضرورةَ وجوده، ويضحى التمتّع والتمعّن في الجميل الذي فيه كافياً له.

الميل إلى هذا النوع من الاشتغال، يحضر عند ابن إقليم أسام، كريشنا كي تي. بورا، أيضاً، الذي يمنح للكاميرا (تصوير أونوش أوليفِرا)، في روائيّه "أغنيات للمطر"، وقتاً طويلاً لنقل مَشَاهد من الطبيعة القاسية المحيطة بالقرية، مُضيفاً إليها موسيقى تصويرية (فيفك برادان)، تُضاعِف شدّة الإحساس بخوائها وتصحّرها. حكايته لا تأخذ المُشاهِد إلى دروبِ التراجيديا الهندية، لكنّها تحتفظ بجزءٍ صغير من ميلودراميّتها، مشحونةً ـ طيلة الوقت ـ بتعابير درامية مؤثّرة، كلّما تحاول الذهاب إلى جذرها التقليدي القديم. أوقفها بورا وأعادها إلى مسارها الحداثوي الجديد، المتوافق مع رؤيته الشبابية للصنعة السينمائية. الكاميرا، لا الحكاية، نواتها، والحكاية نفسها يُمكن كتابتها بأنساقِ سردٍ مُفكّك. الصورة قادرة على لملمته، وعلى جعله كُلاً مُتجانساً.

في النصّين، الجمال طاغٍ. يُلازمه وجع وأسى على خسارات عيش شحيح في قرى، يتصارع أهلها ـ مع أنفسهم ومع الطبيعة ـ جرّاءها. لم تستجب الآلهة، في "أغنيات للمطر"، لتوسّلات أهل القرية. لم تنفع أدعيتهم وطقوسهم الدينية في رفع منسوب مياه نهرهم الوحيد. لم يعد في نهر قرية الصيادين ما يعتاشون عليه. تطلّ، من وسط ذلك المشهد المُتصحّر، مسرّات صغيرة تُشيّعها حميمية علاقة خطيبين صغيرين، يُسمّيهما أهل القرية، تحبّباً، "بينغي" (مايتري داس)، و"بينغا" (أداء رائع لديب جيوتي كاليتا).

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

مثل هذه الأفراح الصغيرة، لا وجود لها في قرية أريتاباتي، التي يختارها "حصى" مكاناً في إقليم "تاميل نادور" (جنوب الهند)، ليجسِّد فيها، سينمائياً، العلاقة المتوتّرة بين صبي يُدعى فيلو (تشيلاباندي)، ووالده غاناباتي (أداء رائع للممثل كاروتهادايان). علاقة تتراكم طبقات تعقيدها في رحلةٍ، يقطعانها باتجاه قرية أهل والدته، التي هربت إليها من قسوة معاملة والده لها. الرحلة بمسارين: ذهابٌ، يأمل الأب منه استعادة "مُلكيّة"، وبالنسبة إلى الصبي، تحمل أملاً باستعادة منزل عائليّ، على وشك الانهيار. الإياب مشحونٌ بالخيبة، بعد رفض الزوجة العودة، ويُزيدها تعقيداً وشدَّةً تمزيق الصبي تذاكر سفر الرجوع بالحافلة. في الطريق، تتّسع المسافة بينهما، وغضب أحدهما على الآخر يتصاعد. مرّة، يُعبّر عنه الصبي برمي والده بحصى يجدها في الطريق، ومرّات بمشاحنات يختلقها الأب مع عابري الطريق الرملية الجافّة نفسها.

الرحلة الطويلة، المُصوّرة بغالبيّتها بكاميرا محمولة (جيا بارتيبان وفيجنيش كومولاي)، تُجمع مشهداً عاماً لقرية هندية في فصل سنوي، يشحّ فيه المطر، وينقطع فيه الزرع والضرع عن الناس، فيُجبرون على أكل الجرابيع، وصيدها في جحورها العميقة. العلاقة بين المكان وظروف العيش فيه مُنعكسة على علاقة الابن بأبيه. الأب يلجأ إلى المُسكِرات، لتخفيف توتّره الداخلي؛ والابن إلى الصمت.

رحلة الصمت الطويلة، المشحونة بالكراهية، تنقل معها مشهداً قاسياً، يُقارب مشهد قرية الصيادين في "أغنيات للمطر" لحظة إعلان عجزهم عن مواجهة الجفاف، بالذهاب إلى المنجمين والسحرة، بدلاً من الآلهة، ليجدوا عندهم حلاً.

يترفّع الفيلمان عن إصدار الأحكام. هناك منحى فيهما لتوفير الأعذار للجميع. لم يفهم الخطيبان الصغيران، في مُنجز بورا، كيف أنّهما متورّطان في حلٍّ، اقترحه ساحر القرية، وأمر به تزويج الشاب من امرأةٍ أخرى. تصمت الخطيبة حزناً، ولا تُقاطع حبيبها تقديراً لتضحيته. حتّى الأب، في "حصى"، يَترك النصُّ له فرصة التعبير عن غضبه من العالم، ومن نفسه.

في النصّين، الخسارات والمرارات طافحة. هذا مُتتطابق مع واقع هندي مُعاش. كلاهما يستنكف تفسيره بيقينية. عرضه وتقديمه، عندهما، لا يقلّان أهمية عن تحليل أسبابه. يتركان ذلك للمُشاهِد وحده. توريطه في البحث والتفكير في المعروض أمامه يمنح صانعيه فرصة التخلّي عن حقّهما السلطوي، والتخلّص من التركة الثقيلة لما بعد العرض.

لا يدّعي الفيلمان الحداثويان تبنّياً صريحاً لفكرة رولان بارت حول "موت المؤلّف". لكنّهما يقاربانها بنهاياتٍ مفتوحة لفلميهما، كأنّهما يتركان للمتفرّج مهمّة إعادة صوغها، ووضع النهاية المناسبة لها، وفق ما يراه، وما يتصوّره، عن حالة الهند، وفجاجة عيشها.

المساهمون