تذوب الأخبار كالملح، يبتلعها الـ"تريند"، ثم يبصقها بعيداً، بعد استهلاك قد يدوم سبعة أيام كحدّ أقصى. كثرت الأخبار، ومعها وسائل الإعلام (بمعناها الواسع). صار الخبر يزيح الآخر بخفّة وبسرعة، مهما بلغت أهميته. استمرارية كل تغطية إعلامية لحدث بعينه ترتبط بشكل أساسي بقدرته على خلق الدهشة. لهذا، تصغر معظم الأحداث تدريجيّاً، وصولاً إلى اختفائها رغم استمراريّتها وتأثيرها في الواقع. أمّا بالنسبة إلى الدهشة، فإن لم تتوفّر في الحدث الأصلي، ستهتمّ الوسائل الإعلامية في إيجادها، وذلك عبر اعتماد زاوية معالجة تتلاءم والصناعة الإعلامية. هذا ما يجعل الحدث عرضةً للتشويه أو للاستغلال السياسي.
في عالمٍ موازٍ لعوالم الكثير منّا، يموت البشر غرقاً في البحر الأبيض المتوسط. تتكرّر محاولات الهرب ومعها الغرق والموت، في رحلات هجرة جماعية مُسمّاة "هجرة غير شرعية". بعد ثورات الربيع العربي، وسقوط حكم معمر القذافي، ومعها الاتفاقية التي سبق وعقدها الأخير مع إيطاليا، وكان يعاد بموجبها المهاجرون غير الشرعيين إلى ليبيا، لإبقائهم في السجون أو ترحيلهم إلى بلدهم الأمّ، سالت المراكب في البحر وكثر الموت.
احتلّت "الهجرة غير الشرعية" المشهد الإعلامي، سواء في الوسائل الغربية أو العربية. في الغرب، مالت كفة المعالجات الإعلامية إلى الخطاب الوطني القومي المشدوه من أكوام "الغرباء"، عابري البحر الطامحين إلى العيش في أوروبا وتغيير صورتها الأصل. ضجّ الإعلام مع تزايد الأعداد، ومع الاحتكاكات والعنف في مخيمات اللجوء، أو عند التقاط صورة أو مشهد مدهش/ صادم/ مؤثر. وهكذا هو اهتمام الرأي العام بقضية "الهجرة غير الشرعية": يخفت، ثم يهتاج تبعاً لموجات الضخّ الإعلامي وانسجاماً معها.
ولكن هؤلاء، أي العابرين في البحر، ظلّوا مجموعة أرقام، باستثناء قلّة رفعها بؤسها إلى مرتبة التغطية الإعلامية الخاصة، فبرزت بعض الأسماء والقصص الشخصية. هذا التهميش لحيوات وسرديّات المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط، أثار اهتمام المصور الفرنسي ماثيو بيرنو (Mathieu Pernot)، ودفعه إلى محاولة خلق سردية جديدة، عبر دمج مجموعة من السرديّات بأصوات وأدوات ناسها، أي المهاجرين أنفسهم.
يوم الثامن من يوليو/ تموز الحالي، وفي نقطة محاذية للبحر، وبينما تمرّ سفن سياحية بالاتجاهين، افُتتح معرض "حركة الأطلس" (L'Atlas en mouvement)، في متحف الحضارات الأوروبية والمتوسطية (Mucem) في مدينة مارسيليا الفرنسية. يستمرّ المعرض حتى التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
إبحار في الأطلس
يتوقّع الزائر، بمجرّد عبور بوابة المعرض الرئيسية، أن بانتظاره جرعات من البؤس الفجّة. فما الذي قد يخرج من قوارب غير آمنة في البحر؟ لكن زائر معرض "حركة الأطلس" سيجد نفسه، بعد خطوته الأولى إلى صالة العرض الرئيسية، سابحاً بين النجوم.
لوحات أربع عنوانها "أسفل النجوم" هي استعادة وإعادة تشكيل للمشهد السماوي الأخير الذي راقبه أستاذ الفيزياء الفلكية في جامعة حلب محمد علي السمونة، قبل "هروبه" من حلب إلى باريس. هذه المحطة الفلكية في بداية المعرض ليست استثناءً، بل خطوة أولى سينتقل بعدها الزائر إلى علم النبات، ثمّ علم التشريح، وصولاً إلى عوالم أخرى مختلفة. المعرض سلسلة بوابات، جرّب من خلالها بيرنو التوجّه إلى متلقّ "لم يختبر اللجوء يوماً". بوابات تستعيد وتستعرض مقتطفات و"أشياء" من حيوات بعض المهاجرين قبل عبورهم البحر. أشياء قليلة عبرت البحر مع أصحابها، أو أعادوا تشكيلها في بلاد اللجوء.
في زاوية عنوانها "الإبحار"، لوحات أربع خالية من أيّ تفاصيل، هي لقطات بسيطة للبحر، لكنها مأخوذة من نقاط انطلاق ووصول سفن مهاجرة (كاليه في فرنسا، والقلمون في لبنان، وبرج القصب في سورية، وجزيرة ليسبوس في اليونان). تصطفّ اللوحات جنباً إلى جنب في أعلى المشهد، قبل أن تنزلق عين الزائر إلى مجموعة من المخططات البحرية. مع الاقتراب منها، سيتمكّن الزائر من رؤية مقاطع مكتوبة باللغة الفرنسية في نقاط مختلفة من كل مخطط. بقلم رصاص، حددت نقاط غرق مراكب المهاجرين. تواريخ وتفاصيل وأرقام: في الأول من سبتمبر/ أيلول من عام 2019، غرق قبالة السواحل الليبية مركب هوائي كان على متنه 100 شخص. 55 منهم تمّ إنقاذهم. أما الباقون فلا معلومات عنهم.
في السادس من أغسطس/ آب من عام 2015، غرق مركب كان يحمل 200 مهاجر على متنه. لم ينجُ أحد. في السابع والعشرين من مايو/ أيار من عام 2018، وصل مركب يحمل سبعين مهاجراً إلى إيطاليا. على متنه، أنجبت امرأة في قلب البحر. المولود بصحة جيدة. أطلقوا عليه اسم "معجزة".
ألف باء الهجرة
الهجرة، كما الفن، فعل سياسي. وهكذا هو معرض "حركة الأطلس". يرفع عن المهاجرين ثقل الصور النمطية، ليسرد عبر تدويناتهم ورسومهم وقصاصات كتبهم المدرسية، سردية الهجرة من وجهة نظرهم. هنا، لا يُختزل المهاجر بعبارة "مجموعة من المهاجرين"، بل هو فرصة لاكتشاف البديهيات: للمهاجر اسم وقصة وحياة حملها في البحر وصولاً إلى أحد الشواطئ. لا وجوه بائسة، ولا لوحة لطفل يحمل لعبة في خيمة في مكان ما من هذا الكوكب. الصور الفوتوغرافية المعروضة والملتقطة، من مخيمات اللجوء، على سبيل المثال، وإن صادف وجود أطفال في بعضها، هي نقلٌ للحظة بائسة كما رأتها عين المصور في حينها، من دون تحميلها أي ثقل عاطفي أملاً بالنجاح في استمالة الرأي العام. وهكذا هو المعرض، شعور الثقل تدريجيّ. غمامة قاتمة تجول وتكبر. ثقلٌ يأتي من كل مكان، لا يُجبر عليه الزائر، بل هو جزء أصيل من حكايا الهجرة وأسماء أصحابها المشاركين في المعرض.
تتوسّط إحدى زوايا المعرض طاولة زجاجية كبيرة. تخرج منها أحرف عربية كرّر أطفال كتابة بعضها عشرات المرات، أحرف كبيرة وقاسية وفجّة، أكلت أطرافها النيران. تصطفّ قصاصات الدفاتر المدرسية، أو البقايا، كطبقات من الألم المتراكم. بعد التخفّف القسري من أشياء كثيرة في حياة سابقة، أملاً بمستقبل أفضل، ها هم يفقدون بمجرد وصولهم ما حملوه لهم أو لأولادهم.
في غرفة مجاورة للصالة الرئيسية، عرض لفيلم وثائقي هو تجميعٌ للقطات من رحلات الهجرة الجماعية، سواء من قلب البحر أو مع الوصول إلى بلاد اللجوء. قوارب كبيرة تُحاول إغراق مراكب صغيرة، صراخ وتكبيرات ومحاولات نجاة. حرائق وعنف وتظاهرات واعتقالات من قلب مخيمات اللجوء في أكثر من بلد. نقلٌ وتوليف لحركة مستمرة في البحر، حدثت ولا تزال إلى هذه اللحظة.