"تورزان تيرمينوس مارسيه"... مسارات لجوء التقت في المدينة الفرنسية

25 يونيو 2022
مجموعة أشخاص يحاولون تصبير أنفسهم على واقع قاسٍ (يوتيوب)
+ الخط -

في المقهى الواقع على الرصيف مباشرة، وبينما تمرّ سيارات بالقرب من الطاولات ومن أقدام الزبائن الممدّدة، وصلت مجموعة شبابية وتوزعت بين الزبائن محاولة الحديث إليهم. بدا من بعيد أنهم يروّجون لمناسبة ما، وأن حضورهم هو ترويج ودعوة ومحاولة إقناع. بما حملت أيديهم من منشورات، مطبوعة بأقلّ إمكانات مادية ممكنة، عرّفوا عن فيلم "تورزان تيرمينوس مارسيه" Turzan terminus Marseille الذي سيُعرض بمناسبة يوم اللاجئين العالمي.

اقترب الشاب من الطاولة حيث أجلس، تمتم بكلمات فرنسية كثيرة. هزّت الرؤوس المحيطة بالطاولة صعوداً ونزولاً، ثمّ ساد صمت، قبل أن يقترب أحدهم من الشاب محاولاً سحب ملصقٍ من يده. تبيّن أن العرض يبدأ خلال الربع ساعة أو أكثر قليلاً. بهذه السرعة؟ مكان العرض ملاصق للمقهى. يكفي الوقوف، التوجه إلى الرصيف المقابل والمشي لأقلّ من ثلاثين ثانية والوصول. سرعة انتقال من رصيف ومقهى إلى مكان عرض، لمشاهدة فيلم بحضور صانعيه والمشاركين فيه، والاستماع إلى سرديّات لجوء مع حضور منوّع بخلفياته العرقية والثقافية. مشهد مطابق لما هي عليه المدينة حيث تمّ التحضير والتصوير والعرض فيها: مارسيليا - فرنسا.

ولكن هكذا تحصل الأشياء في هذه المدينة، كلّها دفعة واحدة ومن دون توقّف. يحصل هذا بكثافة يستحيل معها استيعاب وجود أحداث غير مركّبة، ولكن يمرّ كلّ هذا بعاديّة مطلقة. مدينة لا تهدأ، يعبر منها كثيرون ويأتي إليها كثيرون أملاً بالبقاء. كيف يحصل هذا؟ وهل البقاء خيار قابل للتحقّق بالنسبة الى لاجئ؟

عند مدخل صالة العرض، تجمّع الحاضرون. هرباً من موجة الحر وانعدام القدرة على البقاء طويلاً في الداخل، فضلوا الانتظار خارجاً، بكؤوس نبيذ وبعض السجائر وبكثير من الأحاديث. جلست شابتان محجبتان، تلبسان زيّاً تقليديّاً (عباءات ملونة طويلة بتطريز ذهبي) عند درج صغير مجاور. تنتظران بداية العرض، بينما علت الأصوات بأحاديث بلغة فرنسية ولهجات لافتة بتنوّعها واختلافها. حضور متواضع، تماماً كحال مكان العرض.

الفيلم هو محاولة تقديم سرديّة لشباب وصلوا، صدفة أو بعد تخطيط، إلى مارسيليا. رحلة لجوء، حاول صنّاع العمل اختصارها في نحو الخمسة والأربعين دقيقة. استغرق العمل نحو الستة أشهر، وقد كان مشروعاً جماعيّاً (عمل عليه فرنسيون ولاجئون) موّلته ودعمته جمعيات مهمّتها مساعدة اللاجئين، عبر تأمين فرص عمل أو المساعدة في اندماجهم بشكل أسرع وتعلّم اللغة.

ينطلق الفيلم من محطة القطارات في مارسيليا، محطة سانت شارل. مكانٌ أول لكثير من الوافدين واللاجئين، ومعبر "من وإلى". وهنا كثيرة هي الاحتمالات تماماً كما حياة أي لاجئ، بابٌ مفتوح على المفاجآت. الفيلم متواضع على صعيد الصورة والإخراج وغيرها من التفاصيل، لكنه في هذا المحتوى البسيط، لا استعراضه أو ادّعائه، نجح في جعل قصص اللاجئ الشخصية وسرديّاته أولويّة. نجح في الابتعاد عن الكليشيهات، أو فلسفة المحتوى.

يحكي المشاركون قصص لجوئهم، عبورهم في بلدان كثيرة قبل الوصول إلى مارسيليا، توقعاتهم، العنصرية التي واجهوها وواجهتهم، العنف والحبّ والنوم في الشوارع وصراع الشعور بالتهديد والأمان في لحظة واحدة. تجارب متنوعة، بعضها مُفزع ومُربك، كحديث إحداهنّ عن حوادث اغتصاب شهدتها خلال عبورها في ليبيا. وجوه المشاركين وانفعالاتهم مختلفة، بعضها غاضب من العنصرية والعنف والاستعلاء في فرنسا، وبعضها الآخر ممتنّ بعد نجاح أصحابها في الحصول على إقامات و"إذن سفر"، أو لتمكّنهم من تجاوز امتحان اللغة وتالياً بدء استكمال دراستهم. أشياء من المفترض أن تكون بديهيّة، عادية، روتينية، ولكنها أحلام معلّقة وسط البحر.

من النقاط التي اجتمع المشاركون على صعوبتها وعلى كونها نقطة تحوّل مركزية في مسارهم كلاجئين هي الحصول على أوراقهم الرسمية. في بلاد تختنق بالبيروقراطية، لا يُمكن لأحد أن يتخيّل صعوبة الأمر بالنسبة إلى اللاجئين. أمّا الانطباعات الشخصية، وخلاصة تجربة سنوات اللجوء، فاختلفت من مشارك إلى آخر. بينما اتّخذ سرد أحد المشاركين، مساراً غاضباً بسبب ما واجهه من عنصرية وعنف وأشهر من المبيت في الخارج، بدا أن تجارب آخرين أخف وطأة. ليس هذا بسبب سهولة التجربة، على العكس، ولكنها قدرات بشرية مختلفة في قدرتها على التعبير وتفسير الأحداث وآليّات نجاتها.

يحكي أحد اللاجئين المشاركين، عن كيفية بدء وصوله إلى أوروبا. كانت محطته الأولى في إيطاليا، مهاجر غير شرعي لم يتجاوز السن القانونية. خليطٌ يجعل العملية أكثر تعقيداً. يحكي الشاب عن لحظة وصوله، واستقبال ناشطات في جمعيات مناصرة لحقوق اللاجئين، ما أعطاه انطباعاً بتحقّق نجاته واعتبار انتهاء الصعوبات، ثمّ أتت لحظة صعود الباصات المسؤولة عن نقل اللاجئين، وهذه كانت اللحظة التي تبدأ فيها إشارات النجاة بالتراجع وتشتدّ العتمة: أهلاً بكم في الجحيم. ولكن انعدام أي فرص أخرى، أجبرته على الشعور بالإيجابية على طول الوقت. وكأنّ أسوأ ما قد يحصل لك في المهجر، سيبقى أفضل بسنوات ضوئية من العودة إلى الخلف: البلد الأمّ. هذا الشاب، القادم من القارة الأفريقية، يحكي عن إصرار وصعوبة حياة تدفع باللاجئين إلى عبور البحر على الرغم من عدم قدرتهم على السباحة. يُخفّف، عبر تذكّره لأشهر من الزحف والغرق والموت، صعوبة الواقع.

في مشهد آخر، يحكي لاجئ عراقي الجنسية، عن رحلته وتحوّل محطات حياته. كلمات بسيطة وخالية من التعقيد، يشرح تصاعديّاً من خلالها تفاصيل رحلته في مارسيليا. كيف انطلق من لا شيء وأين أصبح اليوم. سردٌ عاديّ، ولكنه يحمل الكثير من المؤشرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. سردٌ تخلّله كثير من التصبير على واقع قاسٍ، رافقته في كل مرة جملة واحدة، ولكن بصياغات مختلفة "لكنه أفضل من لا شيء". لهذا يبدو في لحظة أن الفيلم يدور حول مجموعة من أشخاص يحاولون تصبير أنفسهم على واقع قاسٍ.

يُنهي أحد المشاركين حديثه برسالة إلى كل المهاجرين، مضمونها عدم التخلّي عن أحلامهم. ما هو سبيله لإقناعهم؟ النظر إلى حاله.

مجموع هذه القصص جزءٌ من تاريخ مدينة مختلفة ومنوّعة كمارسيليا. هي جمعٌ من وافدين وعابرين. سرديات وقصص شخصية يطحنها الواقع. أفراد تصنعهم ويصنعون لحظات سياسية واجتماعية، لهذا يصيرون هم وحياتهم الشخصية حدثاً عاماً.

في نهاية العرض، فتح النقاش بين المشاركين بصفتهم "لاجئين" والحضور. بثقة، طلبت شابة الكلام، وسألت بعض المشاركين في الفيلم: ماذا ستفعلون في حياتكم الآن؟ ما الذي تفكرون به؟ أحدث السؤال لبكة ما، وتقاذفه المعنيّون. لا أحد يُريد الإجابة. خمسة وأربعون دقيقة من الحديث الشخصي، ألا حقّ بمساحة شخصية ولو لدقائق؟

المساهمون