أخذ الممثل البريطاني ساشا بارون كوهين الكوميديا إلى مرحلة أخرى. شخصياته المتعددة في العالم الواقعي، والفخاخ والمفارقات التي يضع فيها ضيوفه، تكشف بأسلوب شديد الإضحاك عن أسوأ ما في الناس، حبهم للاستعراض حد الحمق، وهذا ما رأيناه مع برنامجه الأخير "هذه هي أميركا".
هذا العام وفي حركة مفاجئة قبل بداية الجولة الأولى من الانتخابات الأميركية بيومين، بثت شبكة أمازون برايم فيلم "بورات الفيلم اللاحق: إيصال رشوة كبيرة إلى النظام الأميركي كي تنتصر أمة كازخستان العظيمة". وكما هو واضح، يعود كوهين بشخصيته المعروفة، وكما هو واضح من العنوان هو مُرسل من قبل حكومته إلى أميركا لتقديم رشوة لنائب الرئيس مايك بينس، الرشوة هي قرد يعمل كنجم أفلام إباحية، لكن حين يصل إلى أميركا عبر القارب، يكتشف أن ابنته اختبأت في صندوق الشحن والتهمت القرد، ما يجعله مهدداً بالإعدام من قبل حكومة بلده إن لم يوصل الرشوة، تلك التي ستكون لاحقاً ابنته.
المثير للاهتمام في الفيلم أن بورات، مشهور في أميركا؛ أي بصورة أخرى، لم يعد تنكره مجدياً، ولم يعد قادراً على التسلل والتلاعب وخداع من يراه، وهنا نراه يتنكر مرة أخرى، في أسلوب يستعرض فيه كوهين قدرته على إتقان هذا الفنّ، هو بورات يتنكر كشخص آخر، مستويين من التنكر والخداع، تمر بهما أيضاً ابنته التي تخضع لـ make over، وذلك كي يتمكن من إهدائها لمحامي ترامب رودي جولياني بالرغم من أنها بعمر الـ 15 عاماً.
يضرب كوهين في عمق مؤسسة الاستعراض، وينتقد النسوية السياسية عبر شخصية ابنته، مروراً بالتعصب النازي، والأهمّ أنه يقتحم المساحة الجدّية، كتجمعات الانتخابات والمؤتمرات الصحافيّة بزيه التنكري خالقاً إشكاليةً في التصديق؛ إذ يظهر المتخيل والواقعي في ذات الفضاء، فأيهما يستحق التصديق إذن؛ إذ نرى في الفيلم أن الجدّية أو الإيمان بفكرة ما، ولو كانت سخيفة وعنصريّة، فله آذان صاغية في الولايات المتحدة، وهذا ما نراه فعلا حين غنى في حشد لليمين في تكساس، وردد كلمات أغنية تنتقد أوباما وتتهمه بتصنيع فيروس كورونا أمام جمهور يصفق ويمرح، وكأننا إما أمام مزحة هائلة، أو حقيقة تراجيديّة، وهي أن هناك فئة ترى النساء أقل عقلاً، وأن أوباما يريد تدمير أميركا.
تتحرر ابنة بورات من سلطته، وتتهكم على مهنته كصحافي وعلى كل ما تروج له بلادها من قمع للنساء واستملاك غروتيسكي لهنّ، إذ تتحول إلى نسوية بعد حضورها اجتماعاً للديمقراطيات تكتشف فيه اللذة، وتدعو الحاضرات للانضمام إليها، لكن نراها لاحقاً تطيع رغبة والدها، وذلك كي لا يتم إعدامه في حال عاد إلى بلاده. لذا تعمل بالتعاون معه على ترتيب مقابلة صحافيّة مع رودي جولياني، كي تقدم جسدها كهديّة له، خصوصاً أنها قرأت في الصحف حبّه للنساء ذوات الأثداء الكبيرة.
مشهد المقابلة الذي نراه أشبه بفيديوهات الفضائح الجنسيّة، جولياني الذي انطلت عليه الخدعة، يتلمس جسد ابنة بورات هو يعلم أنها قاصر علماً أن عمرها الحقيقي 24 عاماً، مع ذلك نراه يناور ويتحذلق، لا شيء يوقفه عمّا يريد، حتى تدخّل بورات المتنكر كفنيّ صوت. في المقابلة لم يشعر جولياني بأن الأمر خدعة، وهذا ما يثير الدهشة الهائلة، نحن أمام ما يمكن أن يتحول إلى تحرش في إطار اللعب وانتهاك حرمة الجديّة والصوابية السياسية، وحتى بعد انتقال جولياني وابنة بورات إلى غرفة النوم، يبدو جولياني مستعداً، وهنا يتدخل بورات لإنهاء المقابلة، ويخرج محامي ترامب غاضباً من الغرفة.
الكوميديا هنا ذات أثر سياسي إذ توظف اللعب ضمن مساحة الجدّ لتكشف عن الخفي، ذاك الذي يتلاشى أمام البهرجة والكلام المنمّق الذي يقال على المنصات الرسميّة، التنكر ثم إعادة التنكر، يكشف عن طبيعة الاستعراض نفسه، تلك الأدوار والسيناريوهات المسيّسة والكاذبة، التي تحكم المؤسسة الديمقراطيّة الأميركيّة.
نعت جولياني ساشا بارون كوهين بالكاذب بعد الفيلم، وأكد عبر تغريدة أنه لم يقم بما هو غير ملائم، إذ كان يعيد قميصه إلى بنطاله بعد أن أزالت الصحافية/ابنة بورات المايكروفون، وهنا نعود للكوميديا، المزحة قد تتحول إلى فضيحة سياسية دون أي خداع، وهذا ما تفعله نقدية الكوميديا، إذ يحطم المزاح والهزل أقنعة الجدّي والمتماسك، الذي يدّعي الحقيقة والإتقان والمثاليّة.