"الفتاة الجديدة": مُنجز مُدهشٌ بحلاوته

28 مايو 2021
الأرجنتينية ميكايلا غونزالو: معاينة سينمائية لبلدها (فيسبوك)
+ الخط -

لمعاينة مشهد بلدها في "الفتاة الجديدة" (2021)، تتناول الأرجنتينية ميكايلا غونزالو (1987) قصّة شابّة بسيطة، يتشكّل وعيها ويتطوّر في عملها في مصنعٍ لتركيب الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية، بعد فترة ضياع وتشرّد عاشتها. ولأنّها تعرف كيف تخفّف من ثقل حمولتها المعرفية، تُضمِّن غونزالو نصّها (سيناريو مشترك لها مع لوسيا تيبالدي) إحالات فكرية مبطّنة، كاتبةً رحلة الشابّة بمنظورين: الأول اجتماعي فلسفي، يفسّر الواقع ويعامله بصفته الأكثر تأثيراً في تشكيل وعي الإنسان. يأتي هذا في سياق الأحداث، والحوارات المشحونة بالتوتّر بين العمّال وأصحاب العمل. ويفسّر الثاني السلوك البشري بما يكمن في أعماق الإنسان من مشاعر وأحاسيس، ويجد تعبيراته السينمائية في إشارات جنسية وعاطفية عابرة.

تجسّد غونزالو الرؤيتين المتباعدتين للعالم والإنسان بأسلوبِ سردٍ بصري مذهل، تتداخل فيه واقعية مُخلصة لمرجعيتها الكلاسيكية، وأخرى تنتمي إلى الاتجاهات الدرامية، التي تشترط توافر شخصٍ موهوب، يقدر على نقل كلّ محمولاتها النفسية والعاطفية. عندها فقط، يُمكن الترحيب بوجودها في نصّ سينمائي، يُعنى كثيراً باستحضار الواقع الأرجنتيني، المثقل بأعباء تحوّلات كونية، وأزمات اقتصادية وسياسية.

الهيكل السردي قائمٌ، كلّه تقريباً، على رحلة الشابة خيمينا (مورا أرنيلاس)، تقوم بها إلى جنوب الأرجنتين، بعد أنْ وجدت نفسها فجأة وحيدة في مدينة بوينس آيرس، عقب وفاة والدتها. لوقف تدفّق قلقها وتوتّرها العصبيّ، تقرّرت زيارة أخيها غير الشقيق، ماريانو (رافائيل فيدرمان)، في جزيرة "تييرا ديل فويغو" الباردة والعاصفة دائماً.

في مُنجزها الروائي الطويل الأول ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم في الدورة الـ33 لـ"مهرجان تولوز للفيلم الأميركي اللاتيني (سينَلاتينو)"، المُقامة افتراضياً بين (19 و28 مارس/ آذار 2021) ـ تجد الواقعية الروسية تعابيرها الواضحة في المكان ومناخاته، وفي دقّة رسم شخوصه، وتأطير الظروف التي يتشكّل وعيهم فيها. الانفعالات العاطفية وتوتّرات أبطاله ترشح في ثنايا السرد، عبر أداءٍ تمثيلي مُقنِع، منقول بعدسات كاميرا (فيدريكو لاسترا)، تعرف جيداً كيف تجيّرها لنصّ مركّب ومتعدّد المستويات.

المناخ العام لـ"الفتاة الجديدة" منقول برهافة حسّ إخراجيّ، والتحوّلات الفردية ـ المتراكمة عبر زمن وجيز ـ تعكس بدقّة ما تشهده الأرجنتين من تغيّرات وصراعات سياسية وطبقية متزاحمة. في العمق، هناك تعبير بصري للتحوّلات الشخصية، مصوغٌ سينمائياً، ومؤطَّر بجماليات اشتغال، تزيدها البساطةُ حلاوة. كذلك فإنّ الفيلم يُقارب الأعمال الكبيرة، المُنشغلة ببناء الشخصية وتطوّرها الدرامي الهادئ، في سياق وجودها التاريخي.

 

 

التكوين النفسي لخيمينا مُضطرب. وجه صارم يُخفي جمالاً، وحركات مُنفعلة لا تتردّد في الإقدام على فعل كلّ ما يُبقي على وجودها: تسرق الطعام، وتبيت في أماكن ومحلات من دون علم أصحابها. تُراقب بحذر كلّ ما يحيط بها كحيوان مذعور ومُطارَد. تصعد خلسة إلى الحافلة، التي تقرّر الذهاب بها إلى الجزيرة البعيدة الباردة، من دون معرفة جيدة بأخيها. تبدو، حتى لحظة وصولها، كأنّها كائنٌ عبثي لا يعرف ماذا يريد، ولا يُجيد التعبير عن مشاعره ودواخله. هكذا ظلّت زمناً، لكنّها بدأت تتغيّر حال شروعها بالعمل في المصنع. الحسّية والميل العاطفي الملازم للرحلة يفرضان وجوداً مُوازياً للماديّ الواقعي. تأثّرها بالحركة النقابية وانغماسها فيها، واكتشافها ذاتها، وإحساسها الجديد بطعم الحرية، فرضت كلّها عليها أسئلة مُحيّرة أخرى لم تقاربها قبلاً، كالأخوّة والصداقة والمثلية الجنسية.

يفرض المكان الجديد قواعده. وعلى خيمينا اكتشاف مناطق عاطفية وعلاقات صداقة وأخوّة، فتخضع لاختباراتٍ، وتتعرّض لتأثيراتِ حالةِ اضطراب الجزيرة القريبة من تشيلي. لهذا، تنشط بين المكانين حركة تهريب، يتورّط الأخ فيها، وهي معه إلى حدّ ما. صديقةٌ للأخ تدخل على خط العلاقة بينهما، فتنجذب إلى الشابّة صلدة المشاعر، لتصنع مثلثاً عاطفياً جديداً.

لميكايلا غونزالو رؤية متفرّدة للعلاقة المثلية، تتجاوز السائد، وتضعها في سياقات مختلفة، يُعبّر عنها الشعور العابر واللحظية. يظهر هذا في فيلمها القصير "كلّ مُتعتي" (2018)، حين اكتفت بلقطة واحدة وسريعة ومُعبّرة، عن علاقة عابرة وغير مكتملة بين مُراهقتين، انتهت فمضت كلّ واحدة منهما في طريقٍ عاطفية مختلفة. لحظة البوح الخجول تلك أحد اختبارات المُراهقة واكتشافاتها الملتبسة.

في "الفتاة الجميلة"، أظهرت غونزالو الخيط العاطفي نفسه بين الشابتين، من دون الإيغال في التفاصيل، ولا التوقّف طويلاً عند اهتزازاته البسيطة. هناك علاقات أخرى أقوى، تُقلق أطراف المثلّث، وتُشغلهم عن الإمساك باللحظة العابرة: تخليص الأخ من ورطته مع المهرّبين التشيليين، وإعادة انضمامه إلى العمّال المضربين، واستعادة خيمينا تماسكها الداخلي، والتشبث بالجديد الطارئ على شخصيتها.

الأولويات "الفجّة" في نصّ سينمائي متعدد المستويات لا تُسفِّه عمقه، لأنّها تأتي في سياقٍ متكامل، كلّ تفصيل فيه يُكمل المنجز السينمائي المدهش ببساطته وحلاوته.

المساهمون