"الزرزور": تكرار مُملّ لحكايات سينمائية واحدة

01 أكتوبر 2021
مليسّا ماك كارثي: مواجهة فردية لحُطامٍ وقهر وخيبة (ستيف غرانيتز/ وايرإيماج)
+ الخط -

 

إنْ يكن عنوانُه "الزرزور" (The Starling، باللغة الإنكليزية)، أو "لِيلِي والعصفور" (Lilly Et L’Oiseau، باللغة الفرنسية)، لن يتبدّل شيءٌ من محتواه وحكايته واشتغالاته، باستثناء ما يُحيل إليه العنوان قبل المُشاهدة. الفيلم الجديد للأميركي ثيودور مَلْفي (نتفليكس) يغوص في آثار صدمة نفسية يُصاب بها زوجان حبيبان، إثر وفاة وليدتهما الأولى، لإصابتها بـ"متلازمة الموت المفاجئ للرُضّع". في التعريف به، يُكتَب أنّه "كوميديا درامية". لكنّ الميلودراما طاغية، رغم لقطات قليلة ستكون متنفّساً صغيراً في سيرة الاستعادة، الصعبة والقاسية، لشيءٍ من توازن نفسي وروحي لكلّ واحدٍ منهما، خصوصاً للزوج جاك ميْنارد (كريس أوداود)، المنعزل في مَصحّة للاضطرابات النفسية، محاولاً فيها استعادة ذاته من الحُطام الكبير.

ميلودراما تنحو إلى كلامٍ، يبرع أميركيون كثيرون في قوله عند مطبّات كهذه: القوّة الذاتية في مواجهة الشرّ الناتج من حدثٍ أو حادثة. حِيَل كلامية، تتمثّل بقصص قديمة، أو بأقوال "مأثورة" لأبٍ أو أمٍ، أو لأحد الجدّين، أو لقريب (هؤلاء كُثر في الحياة اليومية لملايين الناس، ومعظمهم يمتلك فلسفةً خاصّة إزاء الحياة والموت والمشاعر والعلاقات والتفاصيل، فيُصبحون أشبه بحكماء يفتون في أمور الأرض والسماء)؛ أو بمواربات آنيّة مستمدّة من الحاصل مباشرة.

العلاقة الصدامية بين طائر الزرزور ولِيلِي ميْنارد (مليسّا ماك كارثي) تُثير بعض ضحكٍ، يبقى أقلّ بكثير من منح الفيلم صفة كوميديا، إنْ تكن معطوفةً على الدرامية أو لا. يبني الزرزور عشّاً لمولودَين له، على غصن شجرة كبيرة في مقابل منزل آل ميْنارد. مع بدء لِيلِي تحويل مساحة من الحديقة إلى أرضٍ زراعية، يشنّ الزرزور حرباً عليها، إلى أنْ تقتله بالسمّ. الزرزور الأنثى تُكمِل الحرب، لكنّ إصابتها بجراحٍ تجعلها ترعاها إلى أنْ تُشفى، ثم تلتقي زرزوراً ذكراً، يُحلّقان معاً بفرحٍ عظيم، ويبدآن معاً مرحلة جديدة من حياة مختلفة. مرحلة تقول بها لِيلِي لجاك، في إحدى لحظات الصفاء المرتبك بينهما في المصحّة.

نصّ (مات هارّيس) مليء ببكائيات وندبٍ، بعد دقائق أولى يشعّ الفرح والحبّ منها. حادثة الموت المفاجئ للرضيعة غير ظاهرٍ، لكنّ جاك في المصحّة، ولِيلِي تعمل في متجرٍ كبير، وتعاني وحدة قاسية في المنزل، وتحاول إخراج نفسها من شقاء الصدمة. جاك أيضاً، لكنّ مرور عامٍ على الصدمة غير كافٍ لإصلاح ما فيه من عطبٍ، فهو غير متناول الأدوية رغم إيهامه الممرضة بتناولها، ويومياته هناك إنقاذٌ له من ورطة العودة إلى المنزل، مع ما تحمله العودة من ضررٍ له، لشدّة عجزه عن أنْ يكون الرجل الذي هو قبل الصدمة والحُطام.

هناك خطّان لن يلتقيا أبداً في السياق الحكائيّ (103 دقائق): لِيلِي تجهد في معالجة نفسها بنفسها، رغم المرارة والقهر اللذين تعاني تداعياتهما فيها؛ وجاك منزوٍ في مصحّةٍ، يراها حماية له في هروبه من المواجهة والتصدّي. "اللقاء العائلي" أسبوعيّ، لكنّ التباعد بين الزوجين يزداد مرّة تلو الأخرى، قبل منع جاك زوجته من زيارته. تفاصيل كثيرة تحدث، ومشاهدات عدّة يعيشها جاك ولِيلِي، كلّ في عالمه وضياعه وخيباته، ومسائل تظهر تدريجياً، وأناسٌ يقولون ما يُمكن أنْ يُساعد، والدكتور لاري فاين (كَفِن كلاين) ـ المتحوّل من الطبّ النفسي إلى الطبّ البيطري، بعد اكتشافه أنّه غير قادر على تجاوز الكلام الكثير مع القادمين إليه للعلاج ـ يجد نفسه في هذه المسافة المنقسمة بين الزوجين، فيدخلها لعلّه ينجو، هو أيضاً، من ألمٍ قديمٍ فيه.

 

 

الكَمّ الهائل من الكلام مرتبطٌ بأحوالٍ منهارة لأناسٍ يواجهون موتاً وخراباً وتمزّقاتٍ. لِيلِي متْعَبة، ومديرها في المتجر يُلاحظ شروداً فيها وأخطاء ترتكبها من دون قصدٍ. جمل عدّة تُقال، تكشف غلبة المضطرب نفسياً على الآخرين، وبينهم معالجون نفسيون، يُردّدون ما يقولونه سابقاً، من أسئلة وأفكار ثابتة. لا إدانة لهم، فـ"الزرزور" غير معنيّ بما هو خارج القصّة المأساوية للزوجين ميْنارد، مع تدخّلات من محيطهما.

سردٌ مبسّط، مع لقطات مُريحة، ولو قليلاً، من ثقل المعاناة والألم. اشتغال سينمائي عادي، من دون جديدٍ يُذكر. العنوان الأصلي مُجرَّد من كل إحالة أو رمز أو دلالة، رغم أنّ المُشاهدة تكشف إحالات ورموزا ودلالات. العنوان الفرنسي يُخرِج الطائر من وحدته في العنوان الإنكليزي، موحياً بأنّ البنية الأساسية للفيلم كامنةٌ في العلاقة القائمة بين الزرزور ولِيلِي، رغم ما فيها من إشاراتٍ إلى الاغتسال والصدام مع الذات، وتنقية الروح من حُطام الخراب وقسوة الموت.

"الزرزور" فيلمٌ عادي للغاية. يُكرِّر أشياء كثيرة مُكرّرة في أفلامٍ مشابهة. صحيح أنّ المرويّ فيها منبثقٌ من ارتباكات واقعية لأناسٍ محطّمين. لكنّ تكرار المُكرّر يُصبح مُملاً، غالباً، خصوصاً مع انعدام وجود أي اختلافٍ ولو ضئيلاً، وأي تجديد ولو طفيفاً.

المساهمون