"الحلم المحظور" سيرة لحسن زينون: رحلة مليئة بالشغف والصبر والتوتر

28 سبتمبر 2022
لحسن زينون: الرقص محبوب ومرغوب فيه لكنّه مرفوض أيضاً (الملف الصحافي)
+ الخط -

"إذا لم تُبدعوا صوراً خالصة عن حياتكم، فسيتكفّل آخرون بذلك، وفقاً لرؤيتهم ومصالحهم الخاصة". هذه كلمات الناقد السينمائي المغربي نورالدين صايل، الذي يستعين بها لحسن زينون، المخرج السينمائي، وأشهر راقص باليه مغربي. بها، يُفسِّر لماذا قرّر نشر سيرته الذاتية، مانحاً إياها عنوان "الحلم المحظور"، الصادرة أولاً باللغة الفرنسية، ثم ترجمها إلى اللغة العربية قاسم مر غاطا، عام 2021 (6 فصول، 392 صفحة).

نصّ درامي، له خصوصية. مليء بالمواقف الإنسانية البسيطة والمُعقّدة في آن. لغته السردية جميلة وأنيقة، ونسيجه الفني يفيض بمشاعر تشي بالصدق. إنّها أيضاً السيرة التي حاول أنْ يسردها صاحب "عود الورد" و"موشومة" في فيلمٍ ثالث طويل، يمزج بين الروائي والوثائقي، فقدّم طلباً للحصول على دعم "لجنة السينما". رُفِض الطلب بذريعة أنّ الأسلوب التوثيقي التخييلي ليس مناسباً، خاصة أنّه يلمس الحادث الذي وقع لبطل السيرة مع الملك الحسن الثاني. ورغم توضيح زينون بأنّ شخصية الملك لن تظهر في الفيلم، أصرّت الرقابة على الرفض، فشعر بأنّه مرفوضٌ مُجدّداً في بلده، بسبب مهنة الرقص التي عشقها، وأفنى حياته فيها.

في فصول الكتاب، يحكي زينون، بجرأة كبيرة، سيرته الذاتية، وسيرة عائلته العُمّالية المُكافحة، وتاريخ بلده مع المحتل، ومع نظام ملكي يكره تحديث الفنون بحجّة الحفاظ على التراث. كما يسرد حكايات الرفض التي واجهها في المغرب، والصراعات التي وجد نفسه مُقحَماً فيها، والعقبات التي اضطرّ إلى تجاوزها، والمكائد التي تعرّض لها، والانهيارات التي مرّ بها، فقط لأنّه أراد أنْ يكون راقص باليه، بدءاً من طرد والده له من المنزل، مروراً بالمسؤول الذي سلّمه جائزة الراقص الأول، ثم عندما ذهب إليه بعد أسابيع قليلة، طالباً منه المساعدة للحصول على منحة سفر إلى الخارج لدراسة الرقص، طرده المسؤول نفسه وأهانه، واصفاً إياه بالمجنون.

هناك أيضاً حالة الانفجار الهستيري التي أصابته في القصر الملكي، عقب وصف الجمهور له بـ"الشاذ"، بسبب رقصه الباليه، ثم وضع الانتحار الذي عاشه، في أعقاب سوء معاملة الملك الحسن الثاني له، وإهانته. فسّر كثيرون موقف الحسن الثاني منه بأنّه سياسي، ومنهم مَنْ قال: "أدرك الحسن الثاني أنّ زينون مزعج ومشاغب، لذلك هاجمه في ظروف لا يعرفها للأسف سوى قلّة من الناس. أدرك الملك أنّه يُشكّل خطراً كبيراً على إطلاق يده في سعيه إلى تحرير الجسد عبر الرقص، بعد أن خطى الفنان خطوات عملاقة إلى تحرير الفكر".

فصول الكتاب ليست موسومة كلّها بالتراجيديا، ففي بعضها مشاهد كوميدية ساخرة، خاصةً في مرحلة الطفولة، التي عاشها بين الكبح والمرح. يحكي زينون عن مغامراته، ومُساندة والدته له ضد أبيه والعالم، وعن خروفه الجميل، وعن الطرق التي قادته إلى استكشاف الفنون واحداً تلو آخر، بدءاً من السينما والرقص الشعبي التراثي والموسيقى، حتى بلوغه قاعات رقص الباليه. كما يحكي عن اللقاءات الإنسانية الثرية والجميلة في حياته، وعن القدر الذي منحه فرصاً، تُعوّض بعض خسائره، وعن مرحٍ كثير في مراحل مختلفة من حياته، وعن الشغف بالفنّ، وعلاقاته بأكبر نجوم هذا الفنّ ونجماته، وصولاً إلى أكبر مخرجي السينما، كمارتن سكورسيزي وبرناردو برتولوتشي، وتجاربه معهما.

في هذا، هناك تفسير وتحليل للأمور والمواقف التي مرّ بها، في وطنه كما في الغرب، حيث عامله مَنْ يجهلون قدره ومكانته بعنصرية فجّة.

يمنح المؤلّف مساحة أخرى لتفنيد أسباب ترسّخ العنف في المغرب، عام 1955، بعد انتشار شعار مقاومة الفرنسيين بين الناس. يقول إنّه مستحيل معرفة عدد الساعات التي أمضاها في حراسة بيت عائلته، بينما كان والده يعقد اجتماعاته السرية لصالح أعضاء حزب الاستقلال، إذ عاش لحظات عصيبة وهو يرى عن كثب أناساً يموتون أمامه.

يكشف الكتاب أيضاً عن تناقضات كثيرة: ألم الختان، ولحظة شعور غريب حين ضمّته عمته الصغرى: "لحظة غريبة. شيءٌ لا يُصدّق. لحظة تشتبك فيها الأحاسيس وتختلط". يحكي عن المتعة في الذهاب إلى حمام النساء برفقة أمّه، وألم الطرد عندما بلغ عمراً معيّناً.

هذا المنع شكّل صدمة عنيفة أضفت قسوة كبيرة على تجربته الجميلة الفاتنة. يحكي عن اكتشافه الجمال والعدوانية في طفولته، وعن متجر البقالة في الحيّ، الذي يُدين له زينون باكتشاف الموسيقى، وكيف كانت دهشته الفنية الأولى، وعن تحسّس الطريق إلى الرقص، فالاحتفال جزءٌ من الحياة العامة للعائلة، والحفلات مصدرٌ لمشاعر الفرح والغبطة في هذا الحي السكاني الفقير. عاش زينون، في تلك الأمسيات، تجارب فريدة، ويُفسّر لماذا كان سكّان الحي ـ الذي ينتمي أغلبهم، وهم عمّال، إلى القبائل الأمازيغية، كأبيه ـ يهتمّون كثيرا بحفلات الزواج والولادة والختان، التي اكتشف بفضلها منجماً للتراث الثقافي المغربي. يحكي عن الهروب الأول من الحيّ، الذي كان بمثابة سجن مغلق.

يتوقّف عند التناقض السيكولوجي في تقبّل أفراد مجتمعه الرقصَ المُثير للغرائز، الذي وصفه بأنّه "انتقامي، يتشفّى من الرجل"، والموقف المناهض للباليه: "كان وضع الفن مُلتبساً وغامضاً. فبقدر ما كان الرقص محبوباً ومرغوباً فيه، كان في الوقت نفسه مرفوضاً. كان الرقص الشرقي يسمح للنساء في إشباع رغباتهنّ، باللعب بأجسادهنّ لإثارة الرجل، واستفزازه نفسياً وعاطفياً بشكل عنيف وقاسٍ. الرقص في نظري أقرب، في بعض الحالات، إلى الإحساس الحقيقي بالانتقام والتشفّي. هذا يحدث في بلدي، الذي تنعدم فيه التربية الفكرية والفنية الحديثة، إذ يُنظر دائماً إلى الجسد باعتباره جنساً و"ليبيدو" فقط، لا وسيلة تعبير فني وجمالي".

 

 

في الكتاب اعترافٌ بأهمية المتسوّلين، الذين كانوا يروون القصص بطريقة ماهرة ورائعة ومُشوّقة، وكيف أنّ أهل الحي كانوا يعاملونهم بلطف. يُؤكّد زينون أنّه مَدين لهؤلاء الهامشيّين الطيّبين بالسفرة الخيالية الأولى، عندما كان يبلغ 5 أعوام.

للسينما مساحة خاصة. فإلى جانب فقرات متناثرة بين الصفحات، خصّص زينون لها فصلاً كاملاً. في مرحلة باكرة من طفولته، أخذت السينما مُستقرّها في حياته: "كان شغفنا بها كبيراً، أنا وأصدقائي. كنّا نقوم بتأجير كاميرا 8 ملّم لتصوير سيناريوهات أعددناها بأنفسنا، لمشاركتها مع سكان الحي. كنا نعرضها في الشارع على واجهة أحد الجدران البيضاء الكثيرة، في مجمع صوصيكا السكني. كان علينا أنْ ننتظر الليل للقيام بالأمر. أحياناً، وفي مناسبات كثيرة، لم نتوانَ عن تكسير مصابيح الأزقة كي يحل الظلام سريعاً على مكان العرض".

يحكي زينون عن عشقه لأفلام تشارلي شابلن وإنغمار برغمان، وخطّته لإرغام والده على تسديد مصاريف دراسة السينما، عندما خطرت له فكرة تعلّمها في باريس، في معهد مستقلّ عبر المراسلة، عام 1959، إذ خدع والده قائلاً بأنّ "هذه الدروس إجبارية إنْ أراد التقدّم في الدراسة"، فصدّقه والده، وسدّد المصاريف الواجبة، إلى حين اكتشافه الحقيقة، فلم يعد أمام زينون سوى التردّد إلى قاعات العرض.

يتّسم أسلوب السرد بالصدق الناجم من التلقائية، حتّى عندما يبوح بالألم. يكشف عن الصرامة والجدية في التعامل مع أعماله، في الرقص والسينما والموسيقى؛ وعن العمل الشاق، والإصرار على تدوين كلّ شيء تعمله في الخارج، تخطيطاً للمستقبل، حتى يفيد به أبناء وطنه؛ وعن الوضوح التام في الرؤية في رحلته الطويلة المتعرّجة، التي خاضها كراقص ومخرج سينمائي، وفي الفن والحياة، رغم ما شابها من لحظات ضعف وإحباطات. فهذه السيرة تحتوي على جماليات كثيرة، تتعمّق في مساره الوجودي والفني، كاشفة بجرأة ودقة الخديعة التي تعرّض لها أكثر من مرة، من مسؤولين في المغرب، لكنّه مع ذلك لم يبخل بإسهاماته الفنية والثقافية أبداً.

إنّها رحلة مليئة بالشغف والصبر والتوتر، الظاهر والخفي، والحب والحقد والكراهية. رحلة عاشق مُصرّ على مواصلة الطريق بصحبة شريكة دربه (نصفه الآخر)، التي صرخت بحزم من وراء الستار في القصر الملكي، يوم أهانه الملك الحسن الثاني، قائلة: "دافع عن نفسك. دافع عن نفسك". ولمساندتها إياه، أهدى الكتاب إليها: "إلى حبيبتي الغالية ميشيل، التي ستظلّ المرأة الاستثناء التي جعلت منّي إنساناً سعيداً خفيفاً. ففي أغلب مستويات حياتي وتنوّعها، كانت ميشيل التجربة الحقيقية التي هدّأتني من الداخل، وحرّكتني وخلخلتني بإيمان، فمنعتني من الانسحاب والهزائم في المراحل العصيبة، ومن الكآبة والألم".

المساهمون