الصورة. التسجيل. الحرب الأهلية اللبنانية. إعادة الإعمار. تفجير مبنى سينما ريفولي. ذاكرة مدينة وناسها. انفجار/ تفجير مرفأ بيروت. إعادة إعمار المنطقة المحيطة به (الجميزة، مار مخايل، الكرنتينا تحديداً). صالات السينما في بيروت قبل الحرب، ودلالات أمكنتها في ذاكرةِ سينمائيٍّ لبنانيّ. العلاقة بين تدمير الناجي من الحرب من أجل إعمارٍ يُدمِّر السلم. القانون اللبناني وتورّطه في حماية مقاولين ورجال أعمال ومال في العقارات والبناء. العلاقة بين ماضي الأيام والمقبل منها، وفقاً للراهن الآنيّ. نصوص أدبية وسردية في خدمة نصّ بصري، يتناول الثقافة والفنّ والصورة والذاكرة والتاريخ والحاضر والعلاقات والعمارة والعيش والتحوّلات والانفعالات. تصاميم هندسية وصُور فوتوغرافية واشتغالات "غرافيك"، تُساهم في البناء الدرامي للنصّ البصري. أقوال ومعطيات وذكريات ووقائع وتحليل لأناسٍ مرتبطين بالأمكنة وبتاريخها، كارتباطهم بفنون وعمارة ومدينة وبلد. كلامٌ عن مستقبلٍ مبنيّ على اختبارات الماضي، وقلق (أخلاقي، إنساني، ثقافي، عمراني، اجتماعي، إلخ. فكلّ التسميات والأوصاف صالحة للمعنى الأعمق للقلق) إزاء مخطّطات مستقبلية لجغرافيا مضطربة، قبل انفجار المرفأ وبعده.
هذا بعض ما في "إعادة تدمير" (2021، 42 دقيقة)، جديد اللبناني سيمون الهبر (1975). بعضٌ قليل يُقال في وقتٍ قليل، فالمدّة غير مهمّة، لأنّ التكثيف يسم ما يُقال ويُصوَّر ويُسرَد ويُستعاد. التكثيف نواة وثائقي يُتيح لأفرادٍ قول ما يشعرون به ويتذكّرونه ويُحلّلونه ويعيشونه، من دون ظهور لهم أمام الكاميرا (مدير التصوير باسم فياض، مساعد كاميرا نبيل عساف، Drone روجيه غنطوس)، فالصوت (هندسة الصوت لشادي روكز، تصميم الصوت لفكتور بريص) كافٍ، وما يقولونه ـ باختصارٍ وحيوية وصدق ووعي ومعرفة ووجع وخيبة ـ أكثر من كافٍ. النصوص، المُستعان بها في تمتين الأسس الدرامية للحكاية، مأخوذة من أعمال 4 كتّاب، تشترك في كونها نتاج ذاكرة واختبار عيش، وإنْ في أزمنةٍ مختلفة، تتراوح بين ماضٍ بعيد، وواقع (بعضه رؤيوي) لمدينةٍ محطّمة، وراهنٍ مُفعم بانقلاباتٍ وتبدّلات.
النصوص (قراءة جانا وهبه وبترا سرحال) مستلّة من روايتي "بيروت مدينة تحت الأرض" (عنوانها "بيريتوس: مدينة تحت الأرض"، 2009) لربيع جابر و"حارث المياه" (1998) لهدى بركات، ومن مقالتَي "قبلتي الأولى" لمحمد سويد (النص المختار منشور في كتابٍ له بعنوان "يا فؤادي، سيرة سينمائية عن صالات بيروت الراحلة"، صادر عن "دار النهار للنشر" في بيروت عام 1996) و"حين خرجت أصواتنا من تحت الكمامات شبيهة بأنين المدينة" لبانة بيضون.
لا حدود بين المراحل البيروتية المختارة (توليف سيمون الهبر). تدمير مبنى سينما ريفولي يترافق وانفجار/ تفجير المرفأ، كأنّ الانفجار تفجير يُشبه تماماً تفجير المبنى، منتصف يوليو/ تموز 1994: "كان هدماً مُثيراً للأسى، إذْ عاند المبنى سقوطه بالطرق التقليدية طوال يومين، إلى أنْ أزاله الجيش اللبناني نسفاً بـ 700 كلغ من مادة TNT تنفيذاً لمشروع سوليدير". ما يُقال عن وقائع يومية في محيط مرفأ بيروت، بعد انفجار/ تفجير المرفأ (4 أغسطس/آب 2020)، يشي بحضور طاغٍ وقاسٍ للحاصل سابقاً. فما يُخطَّط له يندرج في إطار واحدٍ، مع اختلاف أسماء وأشخاصٍ: إعادة إعمار المنطقة المتضرّرة في انفجار/ تفجير مرفأ بيروت ستكون تدميراً (نسفاً أو بالطرق التقليدية) لها لتنفيذ مشروع سوليدير، جديد أو قديم، لا فرق كبيراً.
تحضر السينما في لحظاتٍ وحالاتٍ عدّة: طرح أسئلة الصورة والتسجيل. علاقة الواقع والراهن بهما. معنى التوثيق والأرشفة والتأريخ بصرياً. التقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي. نصّ محمد سويد يصف كيف أنّ "صالات بيروت الراحلة" (أيكون تعبير "الراحلة" متعلّقاً ببيروت، أو بصالاتها، أو بهما معاً؟) تُعتبر "قُبلات النظر في كلّ ساحةٍ وشارع من أرجائها". يذكر أنْ "كابيتول" قُبلة ساحة رياض الصلح، و"التياترو الكبير" (الذي له مكانةٌ أوسع في "إعادة تدمير"، بحثاً في بعض تاريخه، وتنبّهاً لعلاقته بـ "سوليدير") قُبلة شارع الأمير بشير، و"ريفولي" قُبلة ساحة الشهداء، و"سيتي بالاس" قُبلة شارع بشارة الخوري، و"أمبير" بوّابة الجميزة.
هذا ليس تفصيلاً عابراً، أو وصفاً جغرافياً عادياً، أو انفعالاً ذاتياً. هذا حاضرٌ في صلب علاقة بمدينة غائبة أكثر من مرّة، وانفجار/ تفجير مرفئها حجّة لإعادة تدميرها مجدّداً، عبر إعمارٍ لن يكون أقلّ من تدميرٍ آخر.
الحميميّ في نصّ محمد سويد يتسلّل قليلاً من ذاتٍ إلى ما هو أبعد وأجمل، أي إلى موقع كثيرين في تلك الذاكرة، وهذا الراهن: فـ "أمبير" ستكون أيضاً قُبلة السينمائيّ، إذْ فيها "شاهدتُ أول فيلم في حياتي، وبضوئها اغتَسلَت عتمتي، وفيها كانت قبلتي الأولى، ولم أدرِ أنّها كانت قبلة وداع فقط". ألن يكون الوداع أعمّ وأشمل؟ كلام مشاركين في "إعادة تدمير" يؤكّد، تحليلاً وسرداً وحميميات، وإنْ مواربة، أنّ في الأفق، القريب جداً من الراهن الآنيّ، ما يجعل وداع المدينة أقوى وأكثر حدّة، في لحظةٍ يُروَّج بأنّها لحظة إعادة إعمار.
سيمون الهبر غير مكتفٍ بهذا. يُحمِّل "إعادة تدمير" تساؤلات مستلّة من عيشٍ يوميّ في قلب المدينة وفضائها، ومن احتكاكٍ قاسٍ بها وبمتغيّراتها وأحوالها. يذهب إلى الماضي، لأنّ فيه أسس الخراب الكبير في راهن المدينة وناسها. يفعل هذا مراراً: في "سمعان بالضيعة" (2008) و"الحوض الخامس" (2011)، والأخير عن مرفأ بيروت أيضاً، مع ذكريات أبٍّ ورفاقه، وذاكرة مدينة وناسها. يُدخِل، في تنقيبه عن بذور الخراب الكبير في الماضي، شيئاً من قوّة الصورة: "كُلّ حدثٍ تُسجّله الكاميرا يُخلق من جديد ويولد معه الكليشيه خاصّته. وفي زمن الفيديو والكاميرات الرقمية وعدسات الهواتف الخلوية والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، باتت الصورة المسجّلة لواقعة في حجم تدمير سينما ريفولي، أو في ضخامة حدثٍ أشدّ إيلاماً، من صنع هواة وليس محترفين". يقول أيضاً في "إعادة تدمير" إنّ "الحدث يُبارح مكانه ويزول، لكنّه لا يُبارح الصورة، ولا الصورة تغادره".
في قولٍ آخر، يُذكَر أنّ صورة تفجير مبنى سينما ريفولي توجز "اللحظات الثلاث الفاصلة بين فترات الازدهار والحرب وإعادة الإعمار". تُرى، ماذا توجز صورة انفجار/ تفجير المرفأ؟ كم لحظة وكم فترة وكم حكاية وكم لغة وكم معنى وكم حلم وكم خيبة؟ لحظة السقوط المروّع لمبنى ريفولي ستكون لحظة بدء الإمعان في تدمير بيروت، بإعمارها المُشوَّه والمُشوِّه. لن يكون هناك فرقٌ شاسعٌ بين تلك اللحظة، ولحظة انفجار/ تفجير مرفأ بيروت.
كلّ تحليل أو وصف لـ"إعادة تدمير" يبقى أقلّ أهميةً من مُشاهدته. قدرته على تكثيف الكلام وخلطه بالصُور والنصوص والتصاميم أعمق من أنْ تؤدّي كلّ كتابةٍ عنه إلى شيءٍ فيه. اختزاله المُتقن لأكثر من حالةٍ، تتشابك كلّها فيما بينها، في سياقٍ متكامل من السرد، والحالات تلك تلتقي في حيّز واحد، جغرافي وثقافي وأخلاقي وفني وسجاليّ؛ هذا الاختزال أجمل من أنْ تُحدّده جُملٌ وتعابير.
سلاسة السرد، رغم قسوة المشهد، أهمّ وأجمل، مع أنّ المصائب والأعطاب فادحةٌ، من قراءة غير محتملة تأويلاتٍ وتلميحات. فـ"إعادة تدمير"، الوثائقيّ السينمائي الباهر، واضحٌ من دون مباشرة، وصائبٌ من دون خطابٍ.
(*) "إعادة تدمير": إنتاج "بيروت دي سي" و"المفكرة القانونية". المنتجة جانا وهبه. كتابة بترا سرحال وسيمون الهبر.