بوجوده على أرض جزيرة روسية، في بحر قَزوِين، يستنبط الوثائقي السويسري "أوستروف ـ جزيرة مفقودة" (2021) أنساق تفكير روسي، يجمع ـ بتناقضٍ ـ بين أوهام مجد قومي، وتخلّف مُريع عن مسار تحقيقها واقعياً. ظلّ العقل الجمعي الروسي متأرجحاً، في إقامته، بين مدينتين: فاضلة (يوتوبيا) مُتخيّلة، وفاسدة (ديستوبيا) مُعاشة. هذا التأرجح تأكّد وجوده في جزيرة شبه مهجورة، وصلت إليها سفيتلانا رودينا (1958) ـ المخرجة الروسية الأصل، السويسرية الإقامة ـ بصحبة لوران ستوب (1965)، مُساعدها وزوجها السويسري، لتوثيق غرابة عيشٍ في مكان أضحى، مع نهاية الاتحاد السوفييتي، خارج الزمن، منسياً.
لم يعد أحدٌ يتذكّر الجزيرة عندما كانت مرتعاً لصيد أسماك الكافيار (الحفش)، ومرفأ حيوياً لتصنيعه، باستثناء من بقوا فيها. لقلّة أعدادهم، يبدون ـ هم أيضاً ـ كأنّهم كائنات منسية، نجت بأعجوبة من دمار حلّ بالكوكب، وطلعت من ركامه لتجد الجزيرة التي تعرفها وقد تحوّلت إلى لامكان.
لا يعرف إيفان مهنةً غير الصيد. لم يتخلَّ عنه، رغم قرار السلطات الروسية منع الصيد الفردي في مياه بحر يحيطها. لا يعبأ بوصفها لصيده البسيط ـ الذي من دونه تموت عائلته جوعاً ـ بـ"العشوائي". يدخل البحر مُتسلّلاً. يراقب، بحذر، دوريات خفر السواحل. يصيد أسماكاً قليلة، ويعود إلى منزله البسيط. هناك ألفة تنشأ بين الكاميرا وعائلة الصياد، التي يبوح أفرادها أمام عدساتها بما يحسّون به، وبالأجواء المكفهرة المحيطة بهم، وبالقلق المصاحب لمغامرة الصيد الممنوع. هذه كلّها تُحيل الوثائقي ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم طويل، في المسابقة الدولية للدورة الـ28 لـ"المهرجان الكندي الدولي للأفلام الوثائقية (Hot Docs)"، المُنعقدة افتراضياً بين 29 إبريل/ نيسان و9 مايو/ أيار 2021 ـ إلى مُنجزٍ سينمائي، تُقارب مناخاته عوالم Stalker، التي أنجزها أندريه تاركوفسكي عام 1979. التصوير البارع مشتركٌ بينهما. الصورة، عند لوران ستوب، تنتمي إلى المدرسة التاركوفسكية/ الروسية العريقة نفسها.
التوثيق المكاني تقليدي. تفاصيله تبوح ببؤس عيش سكّان جزيرة روسية مُهملة. لا مشفى فيها، ولا مياه نظيفة، ولا خدمات. الشكوى، من تجاهل السلطات الإدارية لوجودها، مُتوقّعة. غير المُتوقّع يكمن في العلاقة غير المفهومة بين زعيم السلطة، المُسبّبة لبؤسهم، وسكّانها؛ وبين مُكابدة إيفان وبقية الصيادين، بسبب تفتيش وحدات الأمن الروسي لجزيرتهم، واقتحام رجالها المُدجّجين بالسلاح بيوتهم، وغرف نومهم ليلاً؛ وتعويله على الرئيس بوتين لانتشاله من بؤسه، والارتقاء عالياً بروسيا مُجدّداً، كما فعل القادة الأفذاذ للحزب الشيوعي السوفييتي من قبل.
البحث عن ظاهرة عيش الروسي بين وهمين ومدينتين (فاضلة مُتخيّلة وفاسدة يقطنها)، لم يُكتب على الورق، منذ البداية، على الأرجح. لم يأتِ صُنّاعه إلى الجزيرة لمعاينة العلاقة التاريخية المُلتبسة بين الشعب الروسي وقادته. ظهرت العلاقة المُلتبسة في سياق العمل على التقاط اليومي والعادي، في حياة المتبقّين من سكّانها، وفي غرابة إحالة رجالها إلى أسباب ما هم عليه. يشخّصون فساد رجال سلطة، يستغلّون مراكزهم لمصالحهم الخاصة، ولا يعبأون بالفقراء أمثالهم، لكنّهم يستثنون منهم زعيمهم بوتين، مُغذّي حلمهم بالعودة إلى الزمن السوفييتي.
وسط الفراغ المفزع، المحيط بالمكان، تصلهم الدعاية السياسية لبوتين عبر التلفاز، الوسيلة الوحيدة التي يتواصلون بها مع قائدهم ـ المِثال في الكرملين. أمامه، يجلسون ويسمعون حواراته ومقابلاته بانبهار. بدهاءٍ، يظهر فيها أمامهم مُصلحاً اجتماعياً، وأباً للروس جميعهم. إنّه، بالنسبة إلى رجال الجزيرة، الرجل الوحيد الذي سيأتي إليهم يوماً، ويُحسّن أحوالهم، وأحوال أمة عظيمة، تراجعت بعد انتصارات وبطولات قدّمها رجال وقادة شجعان، شواهدها على جزيرتهم لا تزال موجودة: نصبٌ تذكاري مُهمل لأبطال الحرب العالمية الثانية، ومُدرِّسة صفّ مدرسي، مُتداعية جدرانه، تُحَفِّظ النشيد الوطني لطلاّبها، وتُغذّي عقولهم بأحلامٍ، يسترجعون بها مَجداً روسياً أفلَ.
في المحن، لا يبقى لحياة الناس معنى وأمل بعيشٍ، من دون أوهام. التاريخ الروسي يمنح الواهِمَ ما يريد. يعطيه جرعات تُعين العائدين إليه على خداع ذواتهم. الوهم أقوى من الواقع. عيبه أنّه قابلٌ للفضح. هذا ما يفعله الوثائقي. سلطة كاميرته، التي تتوسّط سكان جزيرة "ميتة"، فوق سلطة الوهم. وجودها يكفي لمراقبة علامات زعزعة اليقين. لشدّة الالتباس الحاصل بين فَهم السبب وتحديد المُسبِّب، لا تتخلّى عن دورها. تلتقط تعابير المتحدّثين القلِقة، في معاندة منها للصورة التلفزيونية التي تريد طمسها. تنقل لحظات صمت الرجال، بعد كلّ جملة يقينية يقولونها، ونظراتهم الساهبة، كأنّهم ينتظرون بعدها اعتراضاً مُتوقّعاً عليها من شبانٍ يقيمون معهم في المكان نفسه.
شباب الجزيرة جرّبوا المدينة. فشلوا فيها، وعانوا قسوتها. ورغم ذلك، لا يقبلون بأوهام البوتينية، ولا يرتجون منها خيراً.
في مشهدٍ يُكثّف كلّ ما قبله، يظهر إيفان وهو يُملي على ابنته نصَّ رسالةٍ، قرّر إرسالها إلى بوتين، يرجوه فيها تحسين أحوالهم، وتخليص جزيرتهم من فقرها وبؤسها. يمتدّ المشهد إلى ليلة رأس سنةٍ طافحة بالأمل. يسأل صديقٌ له من جيله، في هدأتها: هل ردّ عليك بوتين يا إيفان؟ يُجيبه إيفان: كلاّ.