بثت منصة "نتفليكس" أخيراً السلسلة الوثائقيّة "النباتية الزائفة: شهرة واحتيال وهروب" Bad Vegan: Fame. Fraud. Fugitives التي نتعرف فيها إلى مأساة سارما ميلنغيليس (Sarma Melngailis)، صاحبة مطعم الوجبات النباتية غير المطبوخة التي حققت شهرة شبه عالميّة، ثم ما لبثت أن اختفت عن الأضواء، واستنزفت أموالها وأموال مستثمريها، لينتهي بها الأمر وراء القضبان، بسبب من أحبّت؛ شين فوكس، أو أنثوني سترانغيس، أو إيريك، أو أي اسم لذلك الشخص الذي أودى بمسيرتها المهنيّة.
لن نناقش السلسلة نفسها، بل سنضع شريرها شين فوكس إلى جانب المحتال الآخر من سلسلة "محتال تيندر" The Tinder Swindler سيمون ليفيف الذي استغل النساء، وسرق أموالهن، ليعيش حياة الرفاهية والغنى الفاحش، مستنزفاً الحسابات البنكية للواتي وثقن به.
مقارنة هذين النموذجين من "الأشرار" مثيرة للاهتمام، خصوصاً أنّ علاقة النساء/الضحايا معهما بدأت من الإنترنت، وبصورة أدق، عبر تطبيقات المواعدة، أو تطبيقات اللعب كما في حالة شين فوكس، أي عتبة الدخول إلى الخديعة هي الشاشة وما تقدمه من انطباعات.
اللافت أنّ كلا الشريرين يُدخلان الضحية في عالميهما. لكن الاختلاف، أنّ عالم ليفيف فضائحي وعلني، إذ يصحب ضحيته معه في رحلات حول العالم، ثم يختفي ويطلب النقود عن بعد. لا يعزل ضحيته عمّن حولها، بل يراهن على عاطفتها وقدرته على إتقان أدائه. كأنه يرسم صورة يورط فيها ضحيته؛ إطار يدخلها ويخرجها منه، ليحافظ على اللبس بين الحقيقة والوهم.
الأخطر نموذج شين، ذاك الذي يعزل ضحيته بشكل كامل عن حياتها؛ فميلنغيليس لا تعرف أي حقيقة عن شين الذي يدّعي أن له أسماءً وهمية، ويعمل مع الحكومة في المهمات الخاصة، ويمتلك أموالاً كثيرة، وعمله يجبره على الاختفاء، ليطلب المال من بعيد، بل إنّه يتزوج ضحيته، ويخلق إطاراً قانونياً لنشاطه، لكنه يعزل ضحيته، وينتشلها من سياقها، ويأخذها معه في رحلاته، نافياً إياها عن محيطها، ليتركها وحيدة، في فنادق مختلفة في عواصم العالم تتساءل: هل حقاً سأصبح خالدةً؟ هل حقاً من أحب هو مخلوق فضائي؟
بلاهة الكذبة التي يمارسها شين تعكس قدرته على الابتزاز العاطفي والتلاعب بضحيته، والأهم عزلها عبر سلسلة من الأكاذيب، من دون أن تعرف عنه شيئاً. شين، بعكس ليفيف، ينتمي إلى فئة من المدمنين الأخطر، المقامرين، أولئك الذي يستنزفهم احتمال الربح، ذاك الاحتمال الذي يمكنه (في حال تحققه) تغيير كل شيء.
وهنا اللافت، إذ يورط شين ضحيته في عالمه وأوهامه، يعزلها مثله، وحيداً أمام ماكينة القمار أو ورق اللعب، في انتظار "الحظ"، تلك القوة السحرية القادرة على أن تعمي أشدنا عقلانيّة وحنكة. هذه القوة جعلت شين نفسه مضطراً إلى نفي ذاته كلياً. لا نعلم من هو بدقة، ولا شيء حقيقياً عنه، حتى اسمه... وهذا بعكس ليفيف، فالأخير يريد الحفاظ على صورته العلنية، هي رأسماله وإدمانه في ذات الوقت.
من جهة أخرى، إن قارنّا شين بشخصية آنّا ديلفي، المحتالة التي خدعت أغنياء نيويورك، نجد أنّ الأخيرة لا تكسر الوهم الذي تعيشه، بل تحافظ عليه حد النهاية. لا تعترف، بعكس محتال تطبيق "تيندر". في حين أنّ شين يعيش أوهاماً متعددة، ينفي الواحد لينتقل للآخر.
أوجه كثيرة لـ"المقامر" لا تضيء عليها السلسلة، خصوصاً أنّه أيضاً ضحية هذا الإدمان، ويحتاج للكثير لتجاوز ما يمر فيه. لكن المسلسل ينفي عنه هذه الصفة، وينتصر للضحية/المرأة بسبب طبيعة عصرنا الآن. لكن ألا يجوز أيضاً أن نتعرف إلى حياة مقامر أقنع امرأة ناجحة بأنّه سيجعل كلبها خالداً، وأنّه كائن فضائي، على مدار سنوات؟