بين علامة كاملة للفيلم يضعها عدد من النجوم والنقّاد الفرنسيون، وأخرى وضعها جمهور مُحبّ للسينما، لم تتجاوز المُعدَّل، بدا الأمر مُثيراً للاهتمام. اهتمامٌ تضاعف لفيلمٍ "أخٌ وأخت" الذي يُعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ"، ولكون المخرج من أهم المؤلّفين السينمائيين الفرنسيين المعاصرين، من دون إغفال من ينظر إليه كممثّلٍ عن البورجوازية الفرنسية الحديثة (بو بو)، ومُعبّرٍ عن انشغالاتها الصغيرة.
موضوع الفيلم ليس أقلّ أهمية. إنّه صورةٌ عنيفة للعائلة، ولكراهية أفرادها بعضهم لبعض. هذا ما ردّدته تقريباً وسائل الإعلام الفرنسية، وما جعل الفضول يكتمل لدى من يميل إلى معالجة المواضيع العائلية، سينمائياً، ويرى في كلّ ما يمسّ العائلة جاذبية وإثارة.
هناك مبالغة في القول إنّ الاهتمام بالفيلم كلّف ضياع 108 دقائق، لأنّها (الدقائق) لم تكن كلّها مَللاً، لحسن الحظّ. لكنْ، يُمكن القول إنّها خيبةٌ لمن انتظر آخر أعمال مُخرج، أنجز 24 فيلماً، عُرض 11 منها في مهرجان "كانّ"؛ ولمن توقّع تناولاً جذّاباً لموضوعٍ حسّاس وأثير لدى آرنو دِبْلُشان (1961). فالعائلة، مع صدماتها وعلاقاتها المعقّدة والمتشابكة، كانت ـ لفترة طويلة ـ أحد المصادر الخصبة لإلهامه، كما بان منذ فيلمه الأول "حياة الأموات" (1991).
"أخٌ وأخت" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، والمعروض منذ 20 مايو/أيار الجاري في الصالات التجارية الفرنسية ـ ينشغل بالكراهية، العميقة والمترسّخة، وعسيرة التفسير (بالأحوال كلّها، لا يهتمّ الفيلم بتفسيرها). أليس (ماريون كوتيار) تكره شقيقها كثيراً. سماعُ اسمه يُصيبها بعصبية. رأته صدفة، بعد 20 عاماً من القطيعة، في أروقة المستشفى، حيث يُعالج الوالدان بعد حادثٍ، فأغمي عليها كي لا تقع عيناها عليه مُجدّداً. شقيقها يُدعى لوي (ملفيل بوبو)، معزول مع حبيبته فونيا (الإيرانية الفرنسية غُلشفته فراهاني) في مزرعة نائية عن العالم، وكلّ ما يهمّه، حين يأتيه صديقه الوحيد ليُعلمه بحادث والديه، التعبير عن نفورٍ من لقاء متوقّع مع أليس، أكثر من السؤال عن طبيعة الحادث، وحالة الوالدين.
أليس ممثلة مسرحية معروفة، ذات شخصية قاسية وهشّة في آن واحد. أحبّت شقيقها الأصغر كثيراً، وهناك شعرةٌ تفصلهما عن "حبّ المحارم" (مشهد مربك وغامض يُحيل إلى هذا). لكنّ الكراهية اكتسحت كلّ الحبّ، وباتت تتضاعف كلّما أثبتَ عبقريته في الكتابة والأدب، ونال جوائز. في طفولته، عانى لوي من أب مُثقف وكثير الاطّلاع، بنى معرفته بنفسه، من دون دراسة. في كلّ عيد ميلاد له، كان يُعيّره بفشله. منذ السابعة من عمره، ذكر له أنّ موزارت، في هذا العمر، كتب مقطوعة موسيقية. كلّ مرّة، يأتيه بمثلٍ مشابه. لدى لوي عتبٌ كبير على العائلة، وغيابٌ طويل عنها. لكنْ، لم يمنع هذا حبّاً كبيراً لها، وتعلّقاً بها.
شخصيّته أكثر إقناعاً، رسماً وأداءً، بنزواته وعصبيّته وتشتّته وغرقه في العدم، وفي بحثه عن الحبّ والدعم العاطفي من رفيقته. في العائلة مواهب كثيرة ومتنوّعة، لكنّها مختلّة ومتفرّقة. الحزن الرهيب يوحّد الجميع عند سريري الوالدين، وهذا رغم تكرار أليس بأنّها لن تسامح شقيقها أبداً.
مشاعر عائلية تبعث على الاستغراب، فنفور أفرادها انفعالي ومسرحي وعاطفي وغامض، يترك "أخٌ وأخت" للمُشاهد تفسيرها كما يريد، مع تلميحاتٍ وكلمات عابرة، تدلّ ولا تشرح. كأنْ تقول أليس إنّها تقف دائماً مع المجروحين، ولا تُحبّ هؤلاء الذين يجرحون؛ أو كأنْ تُشير إلى غرور غير مُحتمَل لأخيها، أو تُعبّر عن غيرة من نجاح كتاباته. تسجن نفسها في كراهية هستيرية، وتتصرّف بشكلٍ غير مُبرّر، من دون أنْ تُقنع مَنْ حولها بتصرّفاتها هذه. لا يُقنع آرنو دِبْلُشان المُشاهد بها، كتلك العلاقة المفاجئة مع رومانيّة لاجئة تُعجَب بفنّها، وتبثّها هموماً حميمية منذ اللقاء الأول.
إغفال تفسير دوافع الكراهية، ثم المُصالحة المفاجئة، ربما يكون خيار السيناريو (كتابة آرنو دِبْلُشان وجولي بِرْ). هذه رغبة دِبْلُشان، كما صرّح. فالفيلم، كما قال، ينتمي إلى العائلة، مُضيفاً أنّه من النوع الحميم. ظلّ يُغيّر السؤال، لوضعه في مجال أوسع وأبعد من: لماذا نكره شخصاً؟ يعتقد أنْ لا إجابة مُرضية أبداً. في "أخٌ وأخت"، يُعبّر لوي عن اعتقاد الكاتب ـ المخرج هذا، حين يُسأل عن سبب الكراهية المتبادلة مع أخته، فيقول إنّ طرح السؤال غير أخلاقيّ.
لكنّ عدم تفسير الدوافع يتطلّب معالجة إخراجية جذّابة، بقدرٍ يسمحُ بتعويض هذا النقص الدرامي، وبتحويل مركز تساؤلاته من "لماذا" إلى "كيف"، فيوجّه الاهتمام إلى الشخصيات والسرد وأسلوب معالجة المشاعر. هذا لا يحصل تماماً، فالشخصيات لا تُقنع بسلوكها الغريب، والسرد اعتمد مواقف مبالغة ومفتعلة، كالتي حدثت في المطعم، حين تعرّض لوي لأخته. الأداء إمّا باهتٌ مع ماريون كوتيار، التي دأبت على رسم تعبيرين تراوحا بين ابتسامة بلا معنى، وشجن صامت دامع، مع أنّها أكثر حضوراً وتقديراً بين الممثلات الفرنسيات اليوم؛ أو مُبالِغاً أحياناً، كما مع لوي نفسه، وصديقه زْوِي (باتريك تمْسيت).
اتّكأ الإخراج على الموسيقى التصويرية المأسوية (غريغوار هتزل)، وعلى نوع الصورة الذي جعلها داكنة معظم الوقت، لتمرير مشاعر. لكنّ هذا لا يمرّ ولا يصل، وتبقى مَشاهد كاملة يُفترض بها أنْ تكون مؤثّرة (فقدان أحبّة، خصومة أشقاء، صراع أحياء)، بلا تأثير. حتّى من يُحبّ كلُّ ما يمسّ العائلة، ويتحسّس إزاء أيٍّ من شجونها، فإنّ كلّ ما يفعله يكمن في التثاؤب والنظر إلى الساعة، وعدم التفاعل مع مصائر الشخصيات.
كلّ هذا في إطارٍ من صوابيةٍ تُرضي الجميع. فهناك شخصيات من مختلف الأعراق والأديان والميول الجنسية، وكلّها لطيفة وإنسانية للغاية.