"أبو جوليا"... التجربة العاطفية في مطبخ

14 ابريل 2022
يفضّل أن يقدم نفسه صانع محتوى وليس طباخاً (فيسبوك)
+ الخط -

يفضّل الفلسطيني "أبو جوليا"، أن يقدم نفسه صانع محتوى، بعدما صار نجماً منذ أقل من سنتين، بدلاً من "شيف". هذا يعطي ميزة أفضل لقراءة حضوره الساطع على مواقع التواصل الاجتماعي. إنه كما يبدو في أعين ملايين المعجبين، طابخ محتوى تجريبي، أو من زاوية نظر أخرى، يشبه الشاب الذي أراد تعلّم الشعر، فقال له الأستاذ: عليك أن تحفظ ألف بيت، وحين حفظها قال له: الآن عليك أن تنساها.
كان يمكن أن يتعلم "النسيان" من عربي، لكن عمله في لندن، حيث ساقته الأقدار ليرافق زوجته التي تكمل دراسة الماجستير في الطب، عرفته إلى تجربة شيف إيطالي، يحفظ الطعام وينساه ليكون في شعرية الطعام "أذوق ما أريد" وهو تجريب جمالي على طريقة الشاعر محمود درويش "أرى ما أريد".
لم يكن النسيان المطلوب مرادفاً للمحو. يدرك هذا أي معلّم للإبداع، كما يدركه تلميذه، وكما يدركه الشاب محمد اسبيتة الذي حفظ مطبخه المحلي بدءاً من غزة حيث ولد وعاش، إلى محيطه الفلسطيني حتى الشامي، إلى العربي، إلى البحر الأبيض المتوسط، وقد تشكلت على شواطئه مفردات طبخ حاضرة أكثر من غيرها في عالمه الصغير، الذي اختار له كنية "أبو جوليا".
تزامن صعوده المفاجئ مع الأشهر الأولى من إغلاقات كورونا في بريطانيا. في مارس/ آذار 2020 وقت بدء أول إغلاق تام كان "أبو جوليا" أتقن تحرير فيديوهاته المنزلية، وفي أغسطس/ آب من العام نشر أول فيديو له، وسرعان ما بدأت المشاهدات المليونية.
"يقولون عني شيف"، أما هو فيقول إنه يطبخ الطعام الذي يحبه. هو "لحومي" الهوى وزوجته نباتية، نعرف ذلك من مناكفته لها، وهو يجعل اللحوم تأخذ حصتها اللازمة من السمن البلدي وزيت الزيتون. والسر في ترحيب المعجبين بما يفعله في مطبخه الصغير هو التجربة العاطفية إذن.


في كتاب "خرافة ريادة الأعمال" لمايكل غيربر، انتباهة جديرة بالاهتمام بالتجربة العاطفية التي يحملها متلقي أي منتج، أو أي صناعة محتوى. لذلك، حين يتابع الملايين فيديوهات "أبو جوليا"، يجدون شاباً ذا لهجة فلسطينية غزاوية قح، موشاة بعربية فصحى، يسافر لأول مرة خارج القطاع، مع عروسه التي اقترن بها قبل فترة وجيزة، ليطبخ لنفسه طعاماً ورثه.
إنّ الفلفل في غزة "يورث كاللغة"، وهو بهذا المعنى لسان جغرافي هندي أو مكسيكي في فلسطين. ويلاحظ مشاهدوه كيف يغدق على طعامه كمية من الفلفل، ويطلب منهم حرية الاختيار، ويحقق قبولاً متصاعداً، لا لسبب سوى موهبة التجربة العاطفية، التي تجعل من مروره مع عبارة "حبايبنا اللزَم" مرتين في الأسبوع أنيساً وحيوياً.
مع صيف 2020، حين أطبقت عزلة الفيروس على الجميع، ظهر "أبو جوليا" لأول مرة على فيسبوك، وهو صاحب الحصة الكبرى بين المنصات، بما يقارب سبعة ملايين متابع.
منذ أول فيديو، بُنيت علاقته مع المشاهد على رغبة في الحكي والدردشة في الحيز العائلي الذي نسميه "المطبخ"، وبما أنّ المونتاج بطل رئيسي في اللعبة، يكون الافتتاح دائماً بآخر مشهد، وهو يتذوق ما أنجزه، معرباً عن دهشته من فرادة ما يأكل، سواء أكان ذلك طعاماً محلياً مشهوراً، أم تجربة جديدة من مطابخ عالمية.


يعدد على أصابعه مكونات الطبخة، ثم يصمت برهة لتذكر مكون نسيه، وينخرط في عمله ويتذكر أنّه كان ينبغي أن تكون كمية الماء أقل أو في آخر لحظة يضيف اللومي (الليمون الجاف) إلى وصفة، كان يجب أن يضعه مبكراً.
هذا يضيف إلى العفوية عامل البهجة، حيث يبدو كما لو أنه يترك كاميرا منزلية مفتوحة "على الصدفة" كما تغني فيروز، وفي نفس الآن مدارة بتدبير سلس.
ومثله مثل أي صاعد في النجومية في مواقع التواصل، سيصبح مجال جذب للمؤسسات الإعلامية التي اعتبرت استضافته مكسباً لرصيدها، وسيكون متوقعاً على محرك البحث الأشهر "غوغل" العثور على أسئلة بين الـ 400 مليون عربي: من هو أبو جوليا؟ ما اسم زوجته؟ من هو محمد اسبيتة؟ ما ديانته؟

كلّ ما في الأمر أنّ الشاب على مدار فترة وجيزة، قدم مطبخاً فلسطينياً، بوصفه جزءاً من بلاد الشام، وذا ميزة تخص غزة بالخصوص بوصفها "مفتاح الشام إلى مصر"، من دون أن يتجمد في إقليم ضيق، بل كان ملعبه الأوسع حوض البحر الأبيض المتوسط، لم تمنعه من الإطلالة على عوالم آسيا وأميركا اللاتينية.
يبدو لأي فلسطيني أنّ تابل "السماق" خلق خصيصاً لهم، فهم يستهلكونه بكثرة في وجبة ملحمية هي "المسخن"، بينما قررت غزة أن تجعل له أكلة عنوانها "السمّاقية". هذه المفردات هي مما حفظه "أبو جوليا" وفكر أن عليه الالتزام بها، كما هي القصائد الألف التي حفظها الشاب المشغوف بأن يصبح شاعراً.
غير أنّ التراث كائن حي. أدرك ذلك الشخص الذي يؤكد "أنهم يقولون عني شيف" وقرر بتلقائية، أولاً وآخراً حقه في أن يقترح ويعدل ويضع ويشيل في الوصفات.


من الغريب وربما المرهق أن يتابع الشخص آلاف التعليقات، لكنه يفعل ذلك، ويدخل في نقاشات، ويتعرض لانتقادات ممن يرونه تعسفاً تجاه "تعاليم" وصلت إلينا كابراً عن كابر، أو طابخاً عن طابخ.
والحال الذي خبره العديدون منا، من دون أن يكونوا نجوماً، هو إمكانية التعديل في الوصفات لمائة سبب: صحي، ضرورة اقتصادية، عدم توافر مكون ما. ولكن في آخر المطاف الحرية التي تجعل اختبار الطعوم وبناء علاقاتها، أمراً مرتبطاً بالميراث، وبتحولات ثقافة الطعام أيضاً على مستوى الجماعة وعلى مستوى فرد يفكر داخل النظام، أو يقع على خيار جديد بالتجربة وأحياناً بالمصادفة.

والمصادفة ليست خبط عشواء، بل قانون سري تلتقطهما الموهبة أو التخاطر، أيهما أسرع. وبالتجربة وحدها، يصور "أبو جوليا" العديد من الفيديوهات في أسبوع واحد يختار منها اثنين، في اقتراح يروج له بمهارة، ما ترك أثراً لدى الكثيرين رأوا في الشاب نموذجاً لطعام سهل قائم على المحبة.

المساهمون