كرزيستوف بنيديريكي... مؤلِف الهول والرعب العذب

05 ابريل 2020
شكلت التجربة الإلكترونية لـ بنيديريكي جسراً نحو السينما (Getty)
+ الخط -
كرزيستوف بنيديريكي (1933 - 2020)، المؤلف وقائد الأوركسترا البولندي الذي رحل في الـ 29 من مارس/ آذار الماضي، فضلاً عن أنه كان علماً مُميِّزاً للموسيقى المُعاصرة، وشخصية فذّة في نطاقاتها المحلية والعالمية، كان أيضاً بمثابة موشورٍ بشري حَزَم عبر وجوده في الساحة الثقافية أطياف وجوه ما سُمّي "ما بعد الحداثة"، التي صبغت إبداعات النصف الثاني من القرن العشرين.

من تشنّجه المزمن إزاء تبعية بولندا الشيوعية المُطلقة للكرملين إبان حقبة حلف وارسو، إلى تأرجحه الأسلوبي بين المُعاصَرة الضوضائية والرومانسية الجديدة، ثم إضاءاته الموسيقية على فظائع القرن، مثل الهولوكوست ومسح الحياة عن هيروشيما بالقنبلة النووية، وإشعاعاته على موسيقى البوب والروك والموسيقى الإلكترونية والسينمائية، علاوة على لغته الموسيقية المفعمة بالحداثة والمُثخنة باستشراف الهول ورؤى نهاية العالم. أوجه متعددة، جعلت منه مُجتمعةً واحداً من بين أهم صناع الثقافة في عصره، وأعظم مؤلفي قرنه، والتاريخ الموسيقي برمّته.

شذوذاً عن العادة، لم ينشأ بنيديريكي، وهو من مواليد 1933 في ديبشا جنوب شرق بولندا، لأسرة موسيقية، فوالده كان مُحامياً. كما أنه لم يُبدِ اهتماماً بدروس العزف على البيانو التي بادرت عائلته بتوفيرها استكمالاً نموذجياً لأوجه تربية يجدر بطفل من الطبقة وسطى أن يحظى بها، وإنما انجذب نحو آلة الكمان، لتعقيدها البالغ، على حد تعبيره. انجذابٌ، سيؤثر باللغة الموسيقية التي سيعمل المؤلف الشاب في المستقبل على إبداع أبجديتها من مؤثرات خاصة بالكمانات ومجمل الوتريّات، تشمل النشازات وخمْش الأوتار بالأقواس وأخذ النغمات علوّاً حاداً جارحاً يخدش الآذان.

أحد الأعمال الذي شهد تبلور تلك الأبجدية اللونية كان مقطوعة أُلّفت عام 1960، لاثنتين وخمسين آلة وترية أطلق عليها 8,37، دلالة على مُدّتها الزمنية. يُسمع تداخل الوتريات في ما بينها حفيفاً وصريراً وجعجعةً، حيث تنزلق الأصوات بالأصابع على المقابض، صعوداً وهبوطاً كصفّارات للإنذار، فتلتقي انسجاماً تارة، ونفوراً تارةً أخرى. يُروى أن المؤلف حين سمع العمل يُؤدى حيّاً للمرة الأولى، ألهمته الأصوات الناتجة بأن يُغيّر عنوانه فيُصبح "مرثية لضحايا هيروشيما". بعدها، أرسل النوتة الموسيقية مُهداة إلى عمدة المدينة، مرفقة برسالة قال فيها: "لتكن تلك المرثاة تعبيراً عن إيماني العميق بأن تضحيّات أهل هيروشيما لن تُنسى ولن تذهب سدى، ولتبقى المدينة رمزاً لأخوة ذوي النوايا الطيبة من بين البشر".

إدراكاً منه باستنفاده هو ومُجايلوه الموارد التعبيرية للحركة الطليعية، التي وجدت لنفسها في النشاز صوتاً والضوضاء لغةً وفي التجريب منهاجاً والتجريد رسالة، مالَ بنيديريكي إلى الرومانسية الجديدة، لجهة استعادة عذوبة اللحن وغنائية الجُملة الموسيقية.

كان لميله هذا مأرب ثقافي أيضاً، أراد منه توجيه رسالة سياسية للعالم مفادها أن النظام الشيوعي الشمولي في بولندا وقتئذٍ، قد عمل على استغلال إبداعات مؤلفيه المُغالية في الحداثة والتجريب، كدعايةٍ تُظهره بمظهر المُتسامح المُنفتح. لذا، أراد بنيديريكي من مناورته الأسلوبية تلك سحب البساط من تحت السلطات في وارسو، الباكورة جاءت سيمفونيته الثانية، المُعنونة "ليلة الميلاد"، والتي عاد بالموسيقى من خلالها إلى أجواء الرومانسية المُتأخرة، مستلهماً مؤلفين كـ فاغنر، وماهلر وبروكنر، ومُستوحياً الألحان الحالمة والأجواء الشاعريّة العاصفة.

منْحُ مدخل إلى استوديوهات الإذاعة البولندية مطلع ستينيّات القرن الماضي، فتح أمامه آفاق التجريب في حقل الموسيقى الإلكترونية الصاعد والمتسع اضطراداً. من شأن ذلك الولوج أن زوّد المؤلف بصندوق عدّة أدوات فنية كانت جديدة عليه، بعيدةً كل البعد عن الآلات الكلاسيكية، معقل خبرته ومحور بحثه دراسته. تمخّض عن عهدٍ قضاه في التعاون مع مُهندسي الإذاعة عملٌ مؤثر تحت عنوان "قوات خاصة"، يصب ثقافياً في تيار ما بعد الحداثة المُناهض لإرث النازية والفظاعات التي ارتكبتها بحق يهود أوروبا، وأبناء جلدته من البولنديين على حدٍ سواء.

عُرض في وارسو وشمل، إضافة إلى أجواء إضاءة مسرحية، تلاوة شهادة مروعة لأحد أفراد وحدةٍ من القوات الخاصة المُناط بها محي آثار الإبادة التي ارتكبها الجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية، مُضافاً عليها مؤثرات موسيقية إلكترونية تجريدية الطابع تزيد من قسوة الشهادة وهوْل الرواية.

شكلت التجربة الإلكترونية لـ بنيديريكي جسر عبورٍ نحو عالم السينما، ومن ثم إلى موسيقى البوب ونجومها. أثمرت تعاوناتٍ منها ما قد تُرجم جملةً إسهامات تأليفية استثنائية ضمن أفلام سينمائية شهيرة لمُخرجين كبار، من أمثال ديفيد لينش وستانلي كوبريك، بالإضافة إلى اقتباسات مقاطع من مؤلفاته الأوركسترالية وتجاربه الإلكترونية في عديد من الأفلام؛ إذ إن الطابع السوداوي الداكن الذي ميّز موسيقاه، والإيحاءات القيامويّة الناجمة عن أجواء الخوف والموت والدمار التي تزخر بها أعماله، شكّلت معيناً مثالياً لأيّ من المخرجين، الذين يتقصون مشاهد صوتية تناسب أفلام الرعب والإثارة، تنطوي على عمق درامي سحيق، وتمتلك قوة درامية مؤثرة تدعم السردية المرئية وتساندها.

احتكاكه بموسيقى البوب فناً وثقافة، وصداقة، جاء مكمّلاً صورة الفنان ما بعد الحداثي التي لطالما ميّزته. فنشأت علاقة شراكة فنية جمعته بعازف الغيتار الكهربائي ضمن فرقة موسيقى الروك "راديوهيد" جوني غرينوود، الذي سبق له أساساً أن درس عزف الغيتار الكلاسيكي، وعُرفت لديه ملكة التأليف الموسيقي. لطالما تأثر غرينوود بأسلوب بنيديريكي في التأليف، وعلى الأخص "مرثية لضحايا هيروشيما".

وفي نهاية المطاف، شاءت الصدف أن تعارف الاثنان، عقب إحدى الحفلات الموسيقية، لتنطلق من بعد ذلك مسيرة من التعاون، نتج عنها سلسلة من الحفلات، قدم غرينوود من خلالها أعمالاً تستلهم أخرى بنيديريكي، حيث كانت تُؤدى مثلاً مقطوعة الأخير والمعنونة "بوليمورفيا"، لتعقبها مقطوعة لغرينوود بعنوان "أربع وثمانون استجابة لبوليمورفيا".

بالنسبة لغرينوود، حققت تلك المناسبات الحواريّة حلماً، لطالما رواده، بلقاء من كان له عن بعد معلماً مُرشداً وأستاذاً جليلاً. أما بنيديريكي، فقد حظي من خلال تلك النافذة بفرصة الاتصال بجيل من المُستمعين الشباب اليافعين، ممن يندر وجودهم عادةً في صالات حفلات الموسيقى الكلاسيكية.

المساهمون