ذا بلاتفورم: لأنّهم في الأعلى... لأنّهم في الأسفل

14 ابريل 2020
يقدم الفيلم نظرةً سوداوية عن الطبيعة البشرية (Getty)
+ الخط -
ما هو الوقت الملائم لمراقبة النظام العالمي اليوم وأخطائه؟ أي وقت هو ملائم، إلا أن بعض الأوقات تبدو أكثر مُلاءمةً من غيرها (إن صح التعبير). وقد يكون زمان الجائحة الحالية هذا واحداً من تلك الأوقات، ليجلس الواحد منّا (مرغماً) ويتعلّم شتى أنواع الدروس عن الحياة اليوم. في هذه الظروف بالذات، يمكن لفيلم The Platform الإسباني أن يظفر بجائزة أفضل مصادفةٍ، بعد تزامن عرض نتفليكس للفيلم الذي صدر العام الماضي مع تقارير منفصلة عن تكديس لأكثر من 17 ألف عبوة معقم يدين لبيعها وجني أرباحٍ سريعة، ومحاولة رئيس دولة عظمى شراء حقوق لقاح فيروس كورونا المستجد الذي لم يجهز بعد، وغيرها من الحوادث التي تؤكد أننا غير متساوين. لماذا؟ لأن الفيلم التجريدي يعج بالفوائض.. وطريقة التعامل معها.

إلى الطوابق السفلى خاليةً بالكامل. يستيقظ غورينغ في الغرفة رقم 48، برفقة نزيلٍ آخر يدعى تريماغاسي، الذي سيشرح للأول، ببطء، بعض قواعد المكان، وعلى رأسها عدم التحدث مع نزلاء الطبقة الأدنى، لأنهم أدنى، وعبث التواصل مع من هم في الأعلى. يمر غورينغ في هذا السجن بمستويات عدة، إذ لا منطق يحكم تغير الغرف، وبالتالي الطبقات كل شهر، وهي قاعدة سيتعلّمها غورينغ بالطريقة الصعبة حين ينتقل مع زميل سكنه إلى طابق سفلي وتنقذه ميهارو التي تبحث عن ابنتها في المبنى.

يركز الفيلم على أن النجاة ليست مسألة شخصية، إذ يبدو النزلاء محكومين بمجموعة سلوكيات تفرضها طبقتهم وما سيأكلونه كنتيجة لذلك، ويصبح سؤال الفيلم متعلقاً بالتضامن بينهم حين نعرف أن الطعام على اللوح الرخامي يكفي الجميع (وهي، بشكلٍ ما، مسألة توزيع الثروات على سطح هذا الكوكب). وبالطبع، فإن غورينغ الذي اصطحب معه إلى هذا الجحيم نسخةً من دون كيخوته، سيسعى إلى حل هذه المشكلة.

يركّز غورينغ في حواره مع إيموغيري، التي عملت كموظفة سابقاً وأدخلت العديد من النزلاء إلى هذا المكان، على فهم آلية عمل المكان. فبينما يُفتَرض أن وظيفة السجن هي تعليم النزلاء التضامن، تقول قواعده العكس تماماً، وتبدو إرادة المساجين وذواتهم بلا معنى مقابل القواعد الأكبر، والواقع المادي، اللذين سيحددان سلوكهم. وفي الواقع، فإن طريقة إيموغيري بعد أن باتت نزيلةً هي الأخرى، في الحل عبر الإقناع تثير السخرية عندما يوضع في سياقه، وهو ما يكشفه غورينغ حين يهدد بتلويث طعام من أهم أدناه في حال لم يستمعوا إلى طلباتها بتقاسم الطعام، مثبتاً ضيق أفق التغيير ضمن هذه القواعد.

يشبه نهج إيموغيري الكثير من الطرق الإصلاحية التي تحاول اليوم حل مشاكل العالم الكبرى، كالفقر والجوع، عبر التركيز على التفاصيل الصغيرة والحلول المجتزأة، متناسيةً المشاكل الأكبر في النظام ذاته، أو محاولةً الاعتقاد بوجود حلٍ داخلها. وحقيقةً، تبرز مفارقات كهذه اليوم، إذ يجد مواطنو دول عدةٍ أنفسهم اليوم أمام مشاكل قديمة وحلول هشّة تثبت جائحة كورونا المستجد بأنها لا تقدم ولا تؤخر، سواء تعلق ذلك بنظم الضمان الصحي، أو ضعف هذا القطاع نفسه في دولٍ متقدمة كالولايات المتحدة الأميركية، وسياسات التقشف وحقوق العمال. وإزاء هذه "الصدمة"، بات الاعتقاد بضرورة التغيير الجذري يبزغ أكثر.

يصعب إيجاد حل المشكلة التي يطرحها الفيلم (كما يحدث معنا إلى حدٍ ما)، ويزداد هذا التعقيد عندما نتفحص نظرة العالم التي يتبناها الفيلم، فإضافةً إلى اللامساواة الصارخة التي يطرحها، يقدم الفيلم نظرةً سوداوية بعض الشيء عن الطبيعة البشرية والذاكرة القصيرة عن المعاناة التي يبديها المساجين عند انتقالهم لطبقاتٍ أعلى وتقف حائلاً دون التعاضد، رغم أن تبرير هذه النظرة ممكن جزئياً، كرمى للتركيز على أن السياق هو ما يحدد التصرفات ويرسمها لا العوامل الفردية والشخصية.

ينضم في هذه الأثناء باهارات إلى غورينغ، بعد فشل طريقته في الوصول إلى الخلاص (وهي تعتمد على حبلٍ يتسلّق عبره الطوابق)، ليبدو أن خلاصه لن يحدث ما لم يسلك الاثنان الطرق المعاكسة ويلمسا القاع، لينطلقا بعدها في محاولةٍ لإجبار النزلاء على تقاسم الطعام وفق حصص تكفي الجميع.

قد تكون هذه النقطة واحدةً من الأكثر إثارة للجدل، في الفيلم ذاته وحين نغلق شاشاتنا ونفكر بخلاصنا نحن، ما دام متسع الوقت يسمح بذلك. لا شك أن البعض سيراها غير "ليبرالية" بما يكفي، أو سلطوية بعض الشيء، لكن العالم الذي يقدمه الفيلم -بقربه من عالمنا- لا يعمل وفق ديناميكية "طبيعة"، وقائم على أشكالٍ من التدخل أولاً، ولا مكان فيه للأساطير الليبرتارية عن الحدود الفردية الواضحة، ما سيستلزم تدخلاً مضاداً. وفي الحقيقة، فإن شيئاً شبيهاً يدور اليوم، إذ تثبت الكارثة مع مرور كل يوم فشل الشعارات اللطيفة عن السوق بوصفه المخلّص وعجز هذا النموذج عن التعامل معها.

تمر نهاية الفيلم وتمرّد غورينغ وباهارات بعدة مراحل، يتغيّر خلالها معنى الفعل ذاته الذي يتحوّل من الإثبات عبر الطبق إلى الخلاص، الذي تمثلّه ابنة ميهارو بوصفها المستقبل وصعودها إلى الأعلى، ورغم أن النهاية توحي بموت غورينغ، إلا أن الخلاص كالمشكلة ليستا مسألتين شخصيتين بتاتاً.
لا يمكن النظر إلى The Platform بمعزل عن سنة إنتاجه، والتي شهدت ظهور أفلام عدة عن الاحتجاج الاجتماعي قد يكون أبرزها Parasite الكوري. وبينما قد لا يكون The Platform في هذه القائمة، إلا أنه بالتأكيد فيلم لهذه اللحظات بالذات، حتى بدمويته التي قد تشكل مصدر إزعاج للبعض، لكن لا يمكن تلقي قسوة الفيلم دونها، وتأخذ مصطلح اضطرارنا لأكل بعضنا في عالم اليوم نحو بعدٍ آخر. 

وإذا ما كانت نهاية الفيلم قد أثارت جدلاً بين المشاهدين حول معناها ومآل غورينغ وغير ذلك، فإن خطوتنا القادمة لن تكون أكثر وضوحاً اليوم على الأقل. سنستمر بمشاهدة بعض الأفلام في الوقت الراهن (ما دامت المصلحة العليا تمر عبر هذا الطريق) وننظر إلى نتفليكس كحليفٍ مرحلي، لكن عندما تُفتَح الأبواب مجدداً فإن العودة إلى "الوضع الطبيعي" قد لا تكون خيارنا الأول، لكونه المشكلة ربما.
المساهمون