بلاطٌ فيه مربّعات. ماء يسيل. يتزايد ويتّسخ. تظهر رغوة تجفّ، ثم جسد يكدح في لقطة طويلة (320 ثانية). تمتدّ اللقطة الافتتاحية لـ"روما" (2018) للمكسيكي ألفونسو كوارون أكثر من 5 دقائق، تكون الكاميرا خلالها ثابتة، والحدث يتوالى أمامها. تقوم الكاميرا بحركة "بان 460 درجة" في الدقيقة الـ18 وما بعدها. تعيد الدائرة نفسها في الطابقين العلوي والسفلي. تُطفئ البطلة المصابيح. لا يحدث شيء درامي، لكن تغيّر الضوء يُخبِر بمرور الزمن. تُكمِل الكاميرا الدائرة، وتعيد نصفها.
لم يصنع ألفونسو كوارون هذه اللقطات ارتجاليًا، بل تأملاً وبحثًا وتجريبًا، وإعادة تصوير. التخطيط يمنح العمل بنية لا تظهر، لكن المُشاهد يجد الخيط الناظم للّقطات. تُسهِّل وحدة المكان هذا النظم. يُمكن وعي المكان من تنظيم حقل الإدراك.
تمتد وحدة الـ"كادر" من غسل البلاط ولعب الأطفال إلى رَكْن السيارة وخروجها، ثم تنظيف البلاط. هنا يجري الثلث الأول من الفيلم. مشهد حضّره كوارون لتسهيل عمله.
إذًا، من هو المخرج، وما عمله؟
"يقوم الإخراج بتنسيق وضبط إيقاع الأنظمة المشهدية المختلفة بكاملها، والانتقال من فعلٍ إلى آخر"، يقول باتريس بافي (معجم المسرح). يتمّ الانتقال من فعل إلى آخر في المكان نفسه. في اللقطة التالية، تسير كاميرا محمولة في الخط نفسه مع ما تصوّره في خطين متوازيين. في لقطة أخرى، الكاميرا ثابتة، وموضوعها يقترب أو يبتعد منها. هذا بديل كاميرا تقليدية ثابتة إزاء موضوعها، كما يكون موقع عين المُشاهد ثابتًا أمام خشبة المسرح.
في المسرح، هناك نقطة مرجعية واحدة: كرسي المُشاهد. في السينما، تتنقل الكاميرا، وهي عين المُشاهد. تقترب ـ تبتعد كما في الدقيقة 26 من "روما"، مع اقتراب الرجل من عين المرأة التي تراقبه. هكذا تتبنّى الكاميرا نسبية أنشتاين في حركية الأجسام. واضح ـ من تغيّر موقع الكاميرا، وتغيّر المسافة الفاصلة بين الكاميرا وجسد الممثل ـ أن المخرج مشغولٌ بسؤال: أين ستكون الكاميرا لتوفير معلومات أكثر، وتوليد أحاسيس أعمق؟
وحدة المكان وبساطة الديكور تُسهِّلان مسار الكاميرا. فضاء يدخله الضوء من جهات عديدة. تُركَن السيارة في المكان نفسه، لكن في أوقاتٍ مختلفة، وتعكس الصعوبات تغيّر مزاج السائق. حين يعرف المُشاهد المكان، تلعب الكاميرا كما يريد المخرج ـ المهندس. لذا، اشتكى بيتر بروك، الذي كان يحضر مسرحياته كأفلام، من أنّ الناس "يتصوّرون المخرج كأنّه مُصمِّم ديكورات منازل".
في الهندسة والإخراج، لا يُترَك شيء للصدفة. مع التحضير والتجريب، يُمكن اكتشاف أشياء جديدة يولدها التحضير. عندما تحدث اكتشافات وتغيّرات أثناء التصوير، يتمّ ذلك ضمن برنامج، وليس بفضل حظّ وخواء. لم يكتشف نيوتن سبب سقوط التفاحة صدفةً. بحثًا عن الاكتشافات، صوَّر ستانلي كوبريك "عيون مغلقة على اتساعها" (1999) عامًا كاملاً، ليوصل الزوجين إلى صدامٍ لا مُصالحة بعده، بينما توقف تصوير أفلام كثيرة لأورسون ويلز بسبب طول مدّة بحثه عن الاكتشاف، إذْ لم تكْفِه الميزانية. لم يملك ويلز المهارات التسويقية لكوبريك.
للحصول على نتائج كهذه بصدد اللقطة، التي توهم بالواقعية ووحدة المكان وحركة جسد الممثل وموقع الكاميرا، يجب التدرّب على الإخراج لتعلّمه، إذْ "لا يُمكن تعليم السباحة فوق سجادة منقوش عليها بحر وهمي"، كما يقول البولندي زيغمونت هبنر، الذي يُعرّف الإخراج كطبخةٍ لا كهندسة معمارية: "إن المخرجَ إنسانٌ يُعدّ الصلصة للسمك. سيأتي وقتٌ تُصبح الصلصة فيه أهم من السمكة نفسها" (جماليات فنّ الإخراج). هذا مكتوبٌ منتصف القرن الـ19، وصار حقيقة بداية القرن الـ20، في المسرح والسينما. إذًا، من هو صانع الصلصة الماهر؟ جواب هبنر في كتابه. لكن، كيف صنع كوارون صلصة "روما"؟
بالنسبة إلى المخرج، اللقطة ـ المشهد الذي لا يخضع للمونتاج أهمّ مما يجري في الـ"كادر". يركّز كوارون على موقع الكاميرا التي تمثّل عين من ينظر، لتقديم اللقطة ـ المشهد. نادرًا ما يكون الممثل في مقدمة الـ"كادر". جسده بعيدٌ عن الكاميرا كي لا تُزعج حركته عين المُشاهد، الذي يُساعده الأسود والأبيض على التركيز. هناك دائمًا وضوح من يَرى ومن يُرى، كما في اللقطة ـ المشهد في الدقيقة الـ86، عندما تُهان البطلة، فتظهر وهي تمسح الطاولة الزجاجية مع وجهها. الجسد يكدح دائمًا. هنا بحث عن العمق في التأنّي.
هذا يُحضَّر له في السيناريو، المبني على قصّة قابلة للعرض البصري. يستشهد هبنر بقول كوبريك بأن الإخراج "استمرار وتواصل لعمل الكاتب الذي يُثريه المخرج". كيف يُثريه؟ بالتفسير. أخْرَجَ أي فَسَّر أي أَفْهَم المُشاهد ما هو مجهول وغامض وملتبس (موسوعة لالاند الفلسفية). في "روما"، يتجلّى التفسير في تصوير شاعريّ للحياة اليومية، بحيث تصير قابلة للتحمّل.
تنظيف البهو، وتكرار إيقاظ طفل وإفطاره، وركوب السيارة وركنها، والذهاب والعودة: هذا سلوكٌ يوميّ مُكرّر ومفهوم، ولا يحتاج إلى شرح. هذا يحرّر الكاميرا والصورة من ثرثرة تُسمِّمهما. التكرار هو الشقاء بعينه، والشقاء حدث في الماضي، وصار مُثيرًا للحنين. ماضي الجلوس أمام التلفزيون، والقبلة في صالة سينما. يعي الناس أن الماضي هو الزمن الذهبي، بينما الحاضر سيئ. يعزّز التصوير بالأسود والأبيض الإحساس بالتقادم. هذا يُغذّي الحنين.
يحضر زمن تاريخي واحتجاجات تُعلِن أين ومتى. الاحتجاج علامة كرامة واعتزاز. تحضر لحظة ميلاد طفل لتبرير تحمّل شقاء تكرار اليومي. الإحساس بفقدان طفل يزعزع كيان البشر، لذا فاللقطات التالية للحدث تعرض فضاءاتٍ خالية صامتة، يقطعها نباح. ثم تأتي لحظة المقارنة بين مصير أولاد الأغنياء ومصير أبناء الكادحين.
هكذا يستثمر ألفونسو كوارون في وحدة المكان وشاعرية اليوم وعامِل الزمن، لأن مشاعر الحنين أكثر ثراءً من مشاعر الحاضر. وهذا بعيدًا عن إيقاع الحياة المعاصرة، وعن ضجيج الهواتف المحمولة. كلّما انتشرت أفلام العنف والإيقاع السريع والمؤثرات البصرية والصوتية، يحنّ نقّاد السينما ومنظّروها إليها، وصمودها في الصالات نادرٌ، إنْ عُرضت فيها، فالأفلام الحاصلة على جائزة الإخراج تكون مملة للجمهور العادي، غالبًا.