جوسلين صعب: نهاية مغامرة الاكتشاف السينمائي

09 يناير 2019
تخوض معاركها في البيئة الاجتماعية نحو الحرية (Getty)
+ الخط -
برحيل السينمائية اللبنانية جوسلين صعب (1948 ـ 2019)، تُطوى صفحة أخرى من كتاب "السينما اللبنانية البديلة". قبل شهرين اثنين، كان احتفال بها في "دار النمر للفن والثقافة" (نوفمبر/تشرين الثاني 2018)، في إطار "ثلاثاء الأفلام" ("العربي الجديد"، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2018). حينها، اختير "لبنان في الدوّامة" (1975) لافتتاح 4 أسابيع، تُشكِّل نوعًا من استعادة ـ سينمائية وثقافية وإنسانية ـ لمرحلة مخضّبة بحيوية اشتغالٍ مفتوح على قضايا الراهن، في بيروت ومحيطها العربي. جوسلين صعب تأتي إلى السينما من الصحافة. تملك مفاتيح التحقيق البصري. تخوض معاركها ـ في البيئة العائلية والاجتماعية أولاً ـ كي تكتسب حريتها عبر الكاميرا والعدسة والشريط، وهذا ثلاثيّ تصنع به شهادات بصرية عن أناسٍ وفتراتٍ وحكاياتٍ. 

تغيب جوسلين صعب، فالمرض السرطانيّ قاسٍ، والخاتمة معروفة. والغياب يُعيد طرح سؤال العلاقة الوطيدة بين الكاميرا والمسائل العامّة، لأن حكاية "السينما البديلة" في لبنان، المصنوعة منذ بداية سبعينيات القرن الـ20، هي حكاية سينمائيين عائدين إلى بيروت عشية اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) فيها وفي البلد، أو مع اندلاعها، كحال جوسلين صعب، التي تغادر أمكنتها في الغرب وآسيا، وتأتي إلى مدينة تتمزّق، وإلى أناسٍ يتقاتلون أو يُقْتَلون، وإلى حراكٍ يتطلّب توثيقًا بصريًا لن يكتفي بالتقاط النبض الحاصل في الشارع وبين الجماعات المتناحرة، لأنه يذهب إلى ما وراء الحدث غالبًا، مستعيدًا شيئًا من غليان الفكر والإيديولوجيا والنزاعات المتنوّعة، كي يكشف بعض راهنٍ ملوّث بالدم والغبار.

والحكاية تلك ثنائية بامتياز، لأنها تروي حكاية السينما وحكايات صانعيها. فجوسلين صعب، المنخرطة بكليّتها في أتون الحرب الأهلية، تُشارك آخرين (بعضهم يُغادر الدنيا قبلها كمارون بغدادي ورندة الشهّال وجان شمعون) في صناعة نمط سينمائيّ لبناني ـ عربي، يرتكز جانبٌ أساسيّ منه على الواقع المحليّ، ويتناول بعضه مسائل فلسطين ومقارعة اليمين والبحث في أحوال أفرادٍ مُهمَلين. والسياسة، بمعناها الإنساني اليساري، تحتلّ مكانًا أساسيًا في نتاجٍ تحقّقه جوسلين صعب وجماعة "السينما البديلة"، قبل أن يضع منتصف ثمانينيات القرن الـ20 نوعًا من حدٍّ للتجربة، من دون تغييبها كلّيًا، فإذ بهؤلاء ينصرفون إلى تجارب أخرى، يختبرون مفرداتها وأسئلتها في الغرب، من دون انقطاع تامٍ عن البلد وناسه. لهذا، سيكون للوثائقيّ حضور أكبر في نتاجاتهم، فهو الأقدر على التوثيق المباشر للحدث، وعلى طرح الأسئلة أيضًا، قبل التحوّل إلى الروائيّ المفتوح على متخيّل تحتاجه لغة السينما، وعلى واقع يُشغل بال جوسلين صعب ورفاق المرحلة والاشتغال.

والوثائقي الذي تصنعه جوسلين صعب لن يبقى أسير بيئة واحدة، فهو منبثق من عمل صحافي يدفعها إلى اكتشاف بلدانٍ وتجارب: مصر وحرب أكتوبر (1973)، كردستان وأحوالها، العراق وسورية وإيران والجولان. لكن هذا لاحقٌ لدراسة العلوم الاقتصادية في باريس، قبل عملها في الصحافة الإذاعية والتلفزيونية لحساب محطّات أوروبية وأميركية شمالية ويابانية. فترة مفيدة جدًا لها، إذْ تُنمّي فيها حسّ المغامرة والمواجهة والتحدّي، بارتكازٍ ثقافي على علم ومعرفة ووعي. لذا، تنشأ العلاقة بينها وبين الكاميرا (التلفزيونية والسينمائية الوثائقية) بسلاسة، فتتحوّل العدسة إلى عينٍ تُراقب وتلتقط وتحتفظ، والكاميرا إلى أرشيفٍ يوثّق ويُساجِل ويكشف.
تعتاد جوسلين صعب حملاتٍ تُشنّ عليها لأسبابٍ واهية غالبًا، إذْ يظنّ صانعو تلك الحملات أنْ لهم حقًّا في أن يكونوا "حرّاس التاريخ والراهن"، فيرفضون من يتجرّأ على مسّ مقدّسات أرضية. هذا حاصلٌ معها بسبب "دنيا" (2005) مثلاً، ثالث أفلامها الروائية الطويلة.

فصعب ـ لاهتمام إنساني وثقافي وفكري وجمالي لها بالمرأة وحكاياتها، وبالرقص وأساليبه، وبأسئلة الاجتماع والعصبيّة والتزمّت في مواجهة كلّ إبداع ممكن ـ تختار قصّة طالبة آداب في القاهرة تبحث في الرقص عن طيف والدتها التي تفقدها وهي صغيرة. وهذه قصّة تنفتح على أحوال اجتماعية تكون النساء بطلاتها، وتكون حكاياتهنّ ومواجعهنّ ومصائبهنّ ركائز درامية تكشف شيئًا من أهوالٍ تحيط بهنّ.

والحملة، إذْ تتّخذ من خاتمة الفيلم (نقلاً عن تقارير ودراسات، تذكر صعب وقائع الختان في مصر) حجّة، تُعلن ولو ضمنيًا أن "دنيا" مخادع ومتحامل، بينما الواقع يؤكّد ما تصبو إليه جوسلين صعب، المثابرة على مواجهة مصاعب الحياة والبيئات والذاكرة، من دون كلل أو هزيمة، تمامًا كممارستها عيشها حتى اللحظة الأخيرة، من دون أن تسمح لمرضٍ أن يحول دون اشتغالها، مع أن المرض يشتدّ، والتعب قاتل، والتفكك الجسدي حاد. 

قبل "دنيا"، تنتظر جوسلين صعب 10 أعوام على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كي تُحقِّق أول روائي طويل لها، بعنوان "حياة مُعلّقة" (1985)، المستمرّ في سرد حكاية صعب مع بيروت والحرب والناس (قصة حب بين شاب فاقد "طعم الحياة" وشابّة يتفتّح وعيها في ظلّ تلك الحرب). بعده، تختار نمطًا مختلفًا في صناعة فيلم، إذْ يمتلك "كان يا ما كان بيروت" (1995) نسقًا يُساوي بين وفرة الصُور الأرشيفية وجمالية المتخيّل السينمائي، كي تنظر ـ بعينٍ فاحصة وحنونة ومُحبّة ـ إلى بيروت عبر السينما والحكايات التي ترويها السينما والصُور التي تحتفظ بها السينما عن مدينة "كانت"، وها هي، بعد النهاية الملتبسة للحرب الأهلية (13 أكتوبر/تشرين الأول 1990)، تحاول أن تُرمِّم نفسها، فإذا بجوسلين صعب، مع الشابتين ميشيل تيّان وميرنا معكرون (بطلتي الفيلم)، تحاول التقاط أزمنة المدينة وفضاءاتها، وروح الشوارع والأنقاض والغبار، كي تسرد شيئًا من سيرتها هي.

أما الروائي الأخير، "شو في؟" (2009)، فسرد تأمّلي في أحوال المدينة نفسها، التي تطغى على حياة المخرجة وروحها، عبر سيرة شاب يكتب نصوصًا أدبية من خلال شخصيات المدينة.
المساهمون