فوز سياسيّ لا سينمائيّ... فرهادي يواجه ترامب

06 مارس 2017
+ الخط -
سيبقى "عن إيلّي" (2009) و"انفصال" (2011)، أفضل أفلام السينمائيّ الإيراني أصغر فرهادي (1972). لن يُلغي قولٌ كهذا فيلميه الأولين "الرقص في الغبار" (2003) و"أولاد المدينة الجميلة" (2004)؛ كما أنه لن ينسى "الماضي" (2013) و"البائع" (2016). فالمسار المهنيّ للمخرج، الذي يكتب سيناريوهات أفلامه أيضاً، يرتكز على محطّات، تكشف حساسية لغةٍ بديعة في صناعة الصورة، تتمثّل (اللغة) في جعل الحكاية العادية والبسيطة مدخلاً إلى أعماق بيئة اجتماعية وسياسية وإنسانية، تُغلَّف معالجاتها الدرامية والفنية بتبسيط سرديّ، يفضح ويبوح بهدوء وسلاسة. 

بعد 5 أعوام على "انفصال" ـ الفائز بجوائز سينمائية تبدأ بـ"الدبّ الذهبي" لأفضل فيلم، في الدورة الـ61 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2011)، لمهرجان برلين السينمائي (برليناله)، وتتوزّع على "غولدن غلوب" و"أوسكار" الأميركيتين، و"سيزار" الفرنسية، في فئة أفضل فيلم أجنبي (2012) ـ يحصل أصغر فرهادي على "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، أيضاً، عن "البائع" (2017).

الجائزة الأخيرة تلك تثير جدلاً. السياسة حاضرةٌ بقوة. انشغال "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" بكيفية الردّ على عنصرية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أقوى من السينما. هوليوود مُستنفَرة. منع مواطني عددٍ من الدول الإسلامية من الدخول إلى الولايات المتحدّة الأميركية سببٌ أساسيّ في منح فرهادي جائزة، يُردّد عديدون أنه غير مستحقٍّ لها، عن فيلمه هذا تحديداً. انتقاد السينمائيّ الإيرانيّ لفعلة السياسي الأميركي دونالد ترامب يفتح النقاش على سؤالٍ يتجاوز اللحظة: لماذا يصمت الإيرانيّ على أفعال السلطة الحاكمة في بلده، ضد السينما والفنون والحريات، ويُعلي الصوت ضد دول تُناهِض إيران، وتُكِنّ لها عداءً سياسياً وعقائدياً؟

يُشكِّل سؤال كهذا، المعطوف على سؤال مدى استحقاق "البائع" لجائزة "أوسكار"، مدخلاً إلى استعادة أولى لنتاجٍ سينمائيّ يُتقن أصغر فرهادي صُنعه في بعض أفلامه. "عن إيلّي" و"انفصال" منعطفٌ أساسيّ في سيرته الإخراجية، يقول بحيوية نصّ، وجمالية صورة، وعمق موقفٍ، وبراعة اشتغال. "الماضي" غير إيرانيّ في بعض موضوعه، إذْ يذهب بالإيرانيّ إلى باريس، بحثاً في معنى العلاقات والمشاعر. "البائع" (الترجمة الحرفية للعنوان الإنكليزي تكاد تحجب حقيقة أخرى، تُفيد بأن المعنيّ ليس بائعاً، بل زبوناً) يرسم حدود انقلابات ذاتية، يعيشها الثنائيّ عماد ورنا (المهتمّان بمسرحية "موت بائع" لآرثر ميلر)، إثر لقائه زبوناً قديماً لعاهرةٍ تسكن منزلاً يُضطر الثنائي للإقامة فيه، بعد وقوع زلزال يُطيح بمسكنهما السابق.

قبل "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، يحتفل مهرجان "كانّ" ـ في دورته الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) ـ بـ"البائع/ الزبون". فلجنة التحكيم، التي يترأسها الأسترالي جورج ميلر، تمنح شهاب حسيني جائزة أفضل ممثل، وفرهادي نفسه جائزة أفضل سيناريو. وهذا لن يكون حائلاً دون نقدٍ فرنسيّ سلبيّ: "للأسف، هذا فيلم متصنّع، (مع) بعض الثقل النفسي، والحركات الهائجة للكاميرا"، كما في مقالة لبيار مورا، في "تيليراما" (21 مايو/ أيار 2016)، الذي يكتب فيها أيضاً أن جانب بيرانديلّو (لكل واحدٍ حقيقته)، التي يعتمدها فرهادي كثيراً في أفلامه السابقة، "يتحوّل، هنا، إلى ميلودراما المواعظ".

وإذْ يرى مورا أن الشخصيات كلّها تتعرّض لأحكامٍ، ولا تحصل على المغفرة، فإن زميله سيرج كاغانسكي ("أنروكوبتيبل"، 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) يشير إلى أن سبب وضع الشخصيات في خانتي الشرّ والخير، ناتجٌ من "نصّ متلبّد بشدّة، وغنيٌّ بمسارات خاطئة، ومنعطفات وانتكاسات مختلفة". وفي مقابل ما يُشبه الحسم لدى مورا، بقوله إن فرهادي "لم يعد يُقنعنا"، يكتب كاغانسكي: "نحن لا نعرف إلى أين يأخذنا الفيلم"، لأن هناك تغييرات كثيرة في الاتجاهات الدرامية، تجعل المُشاهدين يتساءلون عن ماهية المنعطف المقبل.

إنه هجوم السياسة على الفعل السينمائيّ. هكذا توصف الجائزة الأخيرة للمخرج الإيرانيّ، خصوصاً أن فيلمين آخرين، على الأقلّ، مُرشّحان لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، يستحقان تكريماً كهذا، لامتلاكهما رفاهية سينمائية جميلة، في مقاربتهما أعماق نفس بشرية، بأسلوبين مختلفين تماماً: "توني إردمان" للألمانية مارن آدي، والأسترالي "تانا" للثنائي بنتلاي دين ومارتن باتلر. فالأول يروي تفاصيل علاقة مرتبكة بين أب وابنته، والثاني يغوص في تقاليد بيئة قبائلية قديمة، عبر قصّة حبّ مبتور، يؤدّي إلى صراعٍ بين قبيلتين.

الغلبة للسياسة لن تبقى محصورةً في فوز أصغر فرهادي بثاني "أوسكار" له. فنقمة هوليوود على الرئيس الأميركي، الظاهرة في سلوك "أكاديمية فنون الصورة المتحركة وعلومها"، تجعل حصول سينمائيين وممثلين سود على بعض التماثيل المطليّة باللون الذهبيّ انعكاساً لموقفٍ سياسيّ، وليس ترجمةً لصنيعٍ سينمائيّ يستحقّ الفوز.


دلالات
المساهمون