بينت دراسة أن الديكتاتور "الذكي" والمتعلم والمتمكّن اقتصادياً، قادر على استقطاب استثمارات أجنبية أكثر من غيره من الطغاة، بما ينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي العام في بلاده، لكن ماذا عن زملائه "الأغبياء"، وهل يرتبط تخلف بعض الدول العربية وغيرها بغباء المستبدّين بها؟
الدراسة نشرها في 8 تموز/يوليو الجاري "معهد بنك فنلندا للاقتصادات التي تمر بمرحلة انتقالية" BoFIT على موقعه الإلكتروني، بعنوان "هل ينجذب المستثمرون الأجانب أكثر إلى بعض الطغاة؟"، استناداً إلى تدقيق بيانات جمعها من 100 بلد حول العالم 3 باحثين هم أبيل فرانسوا وصوفي بانل ولوران ويل.
الاستنتاج الرئيسي للدراسة التي اطّلع عليها "العربي الجديد"، انتهى إلى أن الطغاة المتعلمين هم أكثر من غيرهم جذباً للمستثمرين الأجانب. فقد وجد الباحثون دليلاً قوياً على أن التحصيل العلمي للديكتاتور مرتبط بارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر. كما استدلوا على أن التعليم الاقتصادي والخبرة السابقة في مجال الأعمال التجارية مرتبطان بزيادة هذا النوع من الاستثمار.
في المقابل، لم يجد الباحثون دليلاً على أن العُمر أو الخبرة السياسية السابقة لهما تأثير في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، كما أنهم لم يقعوا على دليل لوجود أهمية يُعوّل عليها لتأثير التعليم في مواصفات الحاكم على استقطاب الاستثمارات من الخارج.
ويعني هذا الاستنتاج بالتالي، أن المستوى العلمي والخبرة الاقتصادية اللذين يتمتّع بهما الدكتاتور، يمكنهما التأثير في أداء الاقتصاد الكلي للبلد، ليس من خلال تأثيرهما في قرارات صنع السياسة العامة، بل من خلال تأثيرهما في توقعات المستثمرين الأجانب.
ووجدت الدراسة أن مسار التاريخ يوفر للمستثمرين سبباً وجيهاً لعدم الثقة بالديكتاتوريين الأقل إدراكاً من الناحية الاقتصادية، مثل الزعيم البورمي السابق ني وين، الذي دمّر ميانمار إبّان فترة حُكمٍ دامت 26 عاماً حتى عام 1988، بما في ذلك من خلال الإصلاح النقدي الذي أمر به "جزئياً لأن منجّمه نصحه بإطلاق أوراق نقدية جديدة فاقت أرقامها الـ9".
وقد خلصت الدراسة إلى أن المستثمرين يضخون أموالاً أكثر في الأنظمة الاستبدادية التي يتمتّع فيها القائد بتعليم قوي. وكلما كان تحصيل الحاكم العلمي اقتصادياً وكانت لديه خبرة سابقة في مجال الأعمال التجارية، فإن الاستثمار سيكون أكثر وضوحاً، وفقاً للدراسة التي درست بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر في 100 دولة تعتبرها "ديكتاتورية" بين عامَي 1973 و2008.
والديكتاتورية، بحسب المؤلفين، هي، إلى حد ما، "عهد استنساب". فحتى لو كانت هناك اختلافات في السلطة الاستنسابية بين الحكام المستبدّين، فإن نطاق قرارات السياسة العامة المحتملة هو أوسع مما هو عليه في الديموقراطيات حيث تساعد المؤسّسات والانتخابات العامة على الحماية من مخاطر الحُكام المتطرفين.
الباحثون اعتبروا في خلاصة دراستهم الواقعة في نحو 40 صفحة، أن "عدم الكفاءة يثبّط الاستثمار إلى حد أكبر من خطر مصادرة الأملاك"، معتبرين أن الخصائص الفردية تلعب دوراً أكبر من دور المؤسسات في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلدان التي تعتمد فيها خيارات السياسة على تقدير شخص واحد، ووجدوا أن الخلفية الشخصية للحاكم يُمكن أن تساعد المستثمرين المحتملين في توقّع خيارات السياسة العامة المستقبلية.
مِنَ "الزملاء العرب"
هذه حال الطغاة وعلاقة مستواهم الذكائي والتعليمي بجذب الاستثمارات الأجنبية إلى بلادهم، لكن ماذا عن حالتهم في الدول العربية التي ينحو عدد منها باتجاه شبه انهيار اقتصادي وتكابد شعوبها أوضاعاً معيشية صعبة جداً ارتفعت معها مؤشرات الفقر والحرمان وتفاقمت ظاهرة التقشف والتشرّد والهجرة، فضلاً عن تسوّل الأنظمة الأموال الخارجية من قروض وهبات.
بالإجمال، أظهر تقرير "المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات" (ضمان) تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي الواردة إلى الدول العربية 0.34% عام 2018 مسجلاً 31.2 مليار دولار، نزولاً من 31.3 ملياراً عام 2017، على وقع المخاطر الجيوسياسية التي تحيط بالدول العربية والتهديد باندلاع حرب في الخليج، حيث تتزايد مخاوف المستثمرين على أموالهم وتتقلص الاستثمارات والتدفقات المالية.
ويُلاحظ، عربياً، أن أكثر ما تتجلى هذه الظواهر الاقتصادية والمالية والمعيشية الآن في السودان والجزائر ومصر وسورية، حيث المشترك بينها الحُكم لعشرات السنوات من نصيب أنظمة تتسم بالديكتاتورية والقمع والتفرّد بالسلطة والهيمنة على صنع القرار، رغم اختلاف في السمات الشخصية لحكامها أو أنظمتها السياسية.
السودان
في السودان، مثلاً، يُخيم شبح الانهيار الاقتصادي وسط غموض يكتنف المشهد السياسي، ورغم الاتفاق الموقع بالأحرف الأولى يوم الأربعاء المنصرم، بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، فيما يشهد البلد انكفاءً استثمارياً لافتاً بعدما تجاوزت الاستثمارات الأجنبية في هذه الدولة المضطربة 74 مليار دولار حتى عام 2017، بقيادة الصين تليها السعودية التي ضخّت 26 مليار دولار في 5 أعوام.
وخلال سنة واحدة، ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المتدفقة إلى السودان 1.056 مليار دولار عام 2017، إلى 1.136 مليار دولار عام 2018، وهو اتجاه سيظهر ما هو معاكس له بنهاية العام الجاري تأثراً بالتطوّرات الحاصلة.
الجزائر
وفي الجزائر، حيث تُساق رموز نظام الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة إلى المحاكم بتهم فساد وإساءة استخدام السلطة والنفوذ للتنفّع على حساب المصلحة العامة وخزينة الدولة، ارتفع إجمالي الاستثمارات الأجنبية المتدفقة 22.2%، من 1.232 مليار دولار عام 2017، إلى 1.506 مليار عام 2018. لكن المسار مرشّح لاتخاذ اتجاه معاكس، في ضوء ما يحصل هناك من زعزعة لأركان نظام ومحاولة بناء نظام ديموقراطي جديد في مسار لا يبدو سهلاً رغم ما تحقق من إنجازات.
مصر
وفي مصر، حيث التقشف وفرض الضرائب ورفع الدعم تعمّق الهوّة بين فقراء الشعب وأغنيائه، تراجع صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة 22.8% إلى 4.6 مليارات دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية 2018 - 2019، هبوطاً من 6.02 مليارات في الفترة المقابلة من العام السابق. وهبطت الاستثمارات الأجنبية المتدفقة 8.2% العام الماضي.
سورية
وفي سورية، غابت الاستثمارات الأجنبية عنها كلياً بسبب الوضع المضطرب فيها منذ عام 2011، حيث لا تتوافر أرقام ولا يتجرأ المستثمرون على استعجال دخولهم إليها مجدداً خشية العقوبات المفروضة على نظام الأسد، فيما لا يزال ملايين اللاجئين السوريين مشرّدين في دول عربية وأجنبية.
أما أرقام سنة 2010 المتاحة فتفيد بأن تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في ذلك العام بلغ ملياراً و539 مليون دولار، ذهب معظمها إلى قطاعَي النفط والغاز بنسبة 63%.
وفي وقت يتقشّف المواطنون إلى أقصى الحدود، لا يجد النظام إلا حليفيه الروسي والإيراني لدعمه، علماً أن دور طهران يتقوّض مالياً بسبب العقوبات الأميركية المشدّدة، فيما تنشط موسكو على خط تعزيز نفوذها الاقتصاد في مفاصل الدولة عبر الاستثمار في الطاقة والمرافئ والقطاع السياحي.