الدين العام في أميركا... وفي غيرها

22 يناير 2020
الاستثمار في أميركا ما يزال أكثر جاذبية (Getty)
+ الخط -

 

في محاولة لسد العجز المتنامي، واستغلال فرصة استقرار معدلات الفائدة عند واحدة من أقل مستوياتها على الإطلاق، تتجه الولايات المتحدة لإصدار سندات خزانة مدتها 20 سنة، للمرة الأولى منذ عام 1986.

وبعد أن عملت وزارة الخزانة الأميركية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على استطلاع آراء العديد من الأطراف المعنية، خلصت إلى وجود ترحيب واسع بالفكرة. وقال ستيفن منوشن، وزير الخزانة إن وزارته "تسعى لتوفير التمويل اللازم، بأقل تكلفة على دافعي الضرائب، وستستمر في النظر في البدائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف".

وفي الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد الأميركي أطول انتعاش في تاريخه، مقترباً من إتمام عامه الحادي عشر، أظهرت بيانات وزارة الخزانة في أكتوبر/تشرين الأول تسجيل عجز في الموازنة العامة يقدر بنحو 984 مليار دولار، خلال السنة المالية المنتهية بنهاية سبتمبر/أيلول 2019، وهو أعلى عجز تشهده أميركا في سبع سنوات، ويمثل 4.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.

ورغم تعهد إدارة الرئيس دونالد ترامب بتخفيض العجز، تسببت الإعفاءات الضريبية، التي أقرها مطلع عام 2018، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الحكومي، العسكري والمدني، خلال العام الماضي، في زيادة عجز الموازنة بنسبة 26 في المائة مقارنة بالعام السابق.

ورغم استمرار انتعاش الاقتصاد الأميركي، وانخفاض معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها في نصف قرن، وارتفاع معدلات الأجور للمرة الأولى في عقود، وكلها عوامل كان يفترض أن تخفض من عجز الموازنة، أوضحت الأرقام ارتفاعه منذ انتخاب ترامب أواخر 2016 بنسبة 68 في المائة، الأمر الذى أدى إلى ارتفاع الدين العام الأميركي إلى أكثر من 23 تريليون دولار، وفقاً لساعة الدين الموجودة بمدينة نيويورك.

وقدر مكتب الموازنة التابع للكونغرس عجز موازنة العام الحالي بأكثر من تريليون دولار، وتوقع ألا ينخفض عن ذلك المستوى خلال الأعوام العشرة القادمة. لكن لا يمثل ارتفاع عجز الموازنة، وارتفاع الدين العام، مشكلة كبيرة للعديد من المسؤولين، في بلدٍ يسعى أغلب كبار المستثمرين حول العالم إلى إقراضه، على اعتبار أن سنداته هي الأكثر أماناً، وتحتفظ دول العالم مجتمعة بما يقرب من ثلثي احتياطياتها من النقد الأجنبي في عملته.

وفي ذات الاتجاه، قلل اقتصاديون، ومنهم مايكل بيتيس، الأستاذ الزائر بمعهد كارنيغي بواشنطن، من أهمية ارتفاع الدين الأميركي، معتبرين أن معدلات النمو المرتفعة لا يمكن تحقيقها في بيئة الاستثمار الحالية، إلا من خلال عجز كبير في الموازنة العامة للدولة، مع معدلات نمو أكبر في المديونية.

وحين اجتمع الآلاف من الاقتصاديين لحضور الاجتماع السنوي للجمعية الاقتصادية الأميركية هذا الشهر في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا، كانت هناك دعوات على نطاق واسع لمزيد من الإنفاق الحكومي، ولكن بحكمة أكثر.

وأوضح كبار المفكرين الاقتصاديين أن الولايات المتحدة ستضطر بالتأكيد إلى زيادة إنفاقها خلال فترة الركود المقبلة، وأن التحديات التي تشغل بال قادة العالم هذه الأيام، مثل تغير المناخ واللامساواة، ستحتاج على الأرجح إلى المزيد من الأموال، وأن الولايات المتحدة سيتعين عليها زيادة إنفاقها على البنية التحتية والتعليم، كونها لا تستثمر بشكلٍ كافٍ فيهما في الوقت الحالي.

وعلى ما يبدو، هناك فريق من الاقتصاديين في الولايات المتحدة، يضم العديد من الأسماء اللامعة، منها على سبيل المثال جانيت يالين، الرئيس السابق لبنك الاحتياط الفيدرالي، ممن يعملون على تهيئة الرأي العام نحو تقبل المزيد من الاستدانة للحكومة خلال الفترة القادمة.

وقالت يالين خلال اجتماع الجمعية الاقتصادية قبل أسبوعين "على الرغم من الظروف الحالية، أعتقد أنه بمقدورنا زيادة الإنفاق الفيدرالي أو تخفيض الضرائب لتحفيز الاقتصاد في حالة حدوث ركود".

نفس الكلام أيده لورانس سومرز، وزير الخزانة الأسبق، الذي شارك في إعداد آخر موازنة فيدرالية بلا عجز، حيث أعرب عن ثقته في قدرة الولايات المتحدة على سداد ديونها طوال الوقت، مؤكداً أنه يدعم البرامج الحكيمة، التي تهدف لتوفير التمويل اللازم للقيام بالاستثمارات العامة الحكيمة في المدارس والطاقة المتجددة وغيرها.

لا تمنح يالين، ومن يوافقها من الاقتصاديين، الحكومة الأميركية الضوء الأخضر للإنفاق أو الاقتراض بلا حساب، ولا يحاولون الترويج لفكرة أن التوسع في الاقتراض لن يترتب عليه أي آثار سيئة، ولكن من الواضح أن هناك تحولاً عن فكرة أن "الاستدانة تضر بالاقتصاد" إلى الاعتقاد بأن "الاقتراض المسؤول لا يضر". وترى يالين أنه "في عالم يتميز بمعدلات الفائدة المنخفضة، سيكون هناك ما يبرر بسهولة برامج الإنفاق على الاستثمارات التي ترفع معدلات النمو المحتملة".

وربما يكون للولايات المتحدة مبرراتها في التوسع في الاقتراض، حيث استقرت معدلات الفائدة عند أقل مستوياتها التاريخية، وعلى الأغلب سيتم تسعير سندات العشرين سنة عند طرحها على معدل عائد يتراوح بين 2 و2.25 في المائة، وبالتالي ستكون تكلفة الاقتراض منخفضة بالفعل، الأمر الذي يشجع على التوسع في الاستدانة، ويجعل الاستثمار أكثر جاذبية، وهو ما يزيد من دوافع الاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة، حتى لا تصبح الولايات المتحدة خارج سباق الدول الكبرى.

لكن المشكلة الحقيقية تكون في الدول التي تتوسع في الاقتراض، فتنمو ديونها الخارجية بمعدلات أسرع كثيراً من معدلات نمو اقتصادها، ويكون اقتراضها بالعملة الأجنبية، بينما مواردها من النقد الأجنبي شحيحة، ثم لا توجه تلك القروض لمشروعات استثمارية حقيقية، تولد عائد بالعملة الأجنبية.

هذه الدول توجه القروض التي تحصل عليها لسد عجز الموازنة، الخالية مجالات إنفاقها من الاستثمارات المدرة للعائد، وهي وصفة صريحة وروشتة فعالة لتحقيق الفشل ودخول البلاد في أزمات خانقة، ومن ثم اضطرارها لتقديم تنازلات من أرضها ومياهها وثرواتها الطبيعية وقرارها، لصالح من سارعوا بإقراضها وحلفائهم، ليبقى مواطنو تلك الدول يئنون تحت وطأة الفقر، بينما يرتع حكامهم في القصور المبنية على حساب المواطنين.

المساهمون