لم يزل سؤال "كيف يعيش السوريون" من الأسئلة الصعبة، بل وعصياً على الإجابة من خلال علم الاقتصاد، ما دام الإنفاق وبحده الأدنى يوازي 8 أضعاف الدخل، لو فرضنا أن لجميع الأسر السورية دخلاً، على ضوء نسبة بطالة تقدرها مؤسسات بحثية من دمشق بنحو 80%.
ففي حين تراجع سعر صرف الليرة نحو 11 ضعفاً، خلال سنوات الثورة، لا تزال الأجور شبه مثبتة على أسعار ما قبل 2011، ما حوّل غالبية السوريين إلى فقراء بنسبة تفوق 70%.
بين الدخل والإنفاق
أظهرت أحدث دراسة أجراها المكتب المركزي للإحصاء في سورية، الأسبوع الفائت، أن متوسط الإنفاق التقديري للأسرة السورية لعام 2018 بلغ 325 ألف ليرة شهرياً (الدولار = 525 ليرة سورية).
وبمقارنة الدخل مع الإنفاق، قال المدير المالي السابق الذي عمل في القطاع الحكومي، محيي الدين العلو: "الراتب المقطوع لحامل شهادة الدكتوراه بسورية، هو 25995 ليرة، والسقف 48740 ليرة، والمشكلة تكمن براتب الموظف من الفئة الرابعة الذي لا يتجاوز 16515 ليرة وموظف الفئة الخامسة 16175 ليرة سورية".
ويختم المتخصص العلو: "هذه الرواتب لم تعد تفي بالحد الأدنى لمعيشة شخص واحد، فماذا بالنسبة لأسرة مؤلفة من خمسة أشخاص، يتم قياس الإنفاق عليها، فبحسبة بسيطة نجد أن الإنفاق هو أكثر بـ8 أضعاف من الدخل، الأمر الذي أوصل السوريين لبيع ممتلكاتهم والاستدانة".
المعاناة بمناطق الأسد
يكشف إعلامي سوري فضّل عدم ذكر اسمه، أن معاناة السوريين بمناطق سيطرة نظام بشار الأسد لا تقتصر على تأمين الطعام والشراب، بل هناك أزمات قلما يتطرق إليها الإعلام.
ويصنّف الإعلامي السوري أزمة غلاء وشح حوامل الطاقة (غاز، مازوت وكهرباء)، بالمرتبة الأولى خلال فصل الشتاء، فسعر أسطوانة الغاز، إن توفرت، يبلغ نحو 8 آلاف ليرة بدمشق، في حين أن سعرها الرسمي 2700 ليرة، وتمنح للأسرة السورية أسطوانة واحدة، بعد فترة زمنية قد تصل للشهر، بعد التسجيل بشركة الغاز، وفق دفتر العائلة.
ويشير المصدر نفسه إلى أن شح مادة المازوت أوصل سعر "بيدون" المازوت سعة 20 ليتراً لنحو 8 آلاف ليرة، في حين أن السعر الرسمي لليتر هو 185 ليرة، ولا تمنح الأسرة السورية سوى 200 ليتر مازوت وفق السعر الرسمي، طيلة العام، وأما البنزين فبات يمنح وفق "البطاقة الذكية" بمعدل 40 ليتراً.
وحول استمرار انقطاع التيار الكهربائي بالعاصمة السورية، يؤكد الإعلامي من دمشق، أن نظام التقنين لم يزل سارياً، إذ يأتي التيار لساعتين مقابل 4 ساعات قطع، وذلك حتى الساعة 11 ليلاً، بعدها قد لا تنقطع الكهرباء.
وفي ما يتعلق بأسعار المواد الغذائية الرئيسية، يشير المتحدث إلى أنه ورغم ما يقال عن انخفاض الأسعار بمعدل 10% خلال الأسبوع الفائت، لم يزل سعر كيلوغرام الباذنجان بدمشق ألف ليرة، والبطاطا 400 ليرة، والبندورة 350 ليرة، وجنون الأسعار، بحسب وصف الإعلامي السوري، طاول جميع السلع والمنتجات، فسعر كيلوغرام جبنة القشقوان 1300 ليرة، أما المنتجات الحيوانية والفواكه، فباتت من الكماليات على موائد السوريين، بعدما وصل سعر الطبق (30 بيضة) إلى 1200 ليرة، وكيلوغرام الفروج إلى 1200 ليرة ولحم الضأن (خروف) إلى 7 آلاف ليرة.
ولا يقل سعر كيلوغرام التفاح عن 400 ليرة، والموز البلدي 600 ليرة، والفريز 1200 ليرة، والكستناء 1500 ليرة سورية.
حتى الأدوية وحليب الأطفال
ويؤكد المصدر من دمشق أن "الأزمة الكبرى" في قطاع الأدوية والطبابة وحليب الأطفال، بعد هجرة معظم الأطباء وتهديم المشافي والصيدليات، بل وإغلاق وزارة الصحة 150 صيدلية بحجة بيع أدوية مهربة عام 2018.
ويكشف المصدر أن أجرة الكشف الطبي بدمشق تراوح بين 5 و10 آلاف ليرة سورية، على حسب مهارة الطبيب وشهرته وتخصصه، في حين ارتفع سعر الدواء بين 700 و1000%، حسب النوع والطلب، وفقدت أدوية الأمراض المزمنة من الأسواق السورية.
ولحليب الأطفال قصة موجعة، حسب وصف المصدر، إذ تعاني الأسواق السورية من شح المادة منذ نحو شهرين، ما رفع سعر عبوة حليب الأطفال المجفف لنحو 6 آلاف ليرة (تكفي الطفل لأربعة أيام)، في حين السعر الرسمي قبل الشح (نوع "نان" يبلغ سعره 2700 ليرة، و"كيكوز" 2200 ليرة، و"مامي لاك" 1700 ليرة، و"ألبين" 2775 ليرة، و"بيبي لاك" 2100 ليرة، إضافة لـ"بايوميل" سعره 2475 ليرة، و"نيسرو بيبي" سعره 2330 ليرة). ويؤمن بعض السوريين المقتدرين مالياً حليب الأطفال من لبنان بسعر 8 آلاف ليرة للعبوة الواحدة.
الأسعار بالمناطق المحررة
لا تختلف معاناة السوريين بالمناطق الخارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد (إدلب وريف حلب الغربي)، فتدني الأسعار قياساً بدمشق يقابله عدم وجود فرص عمل بمناطق شمال غرب سورية، فضلاً عن عودة القصف من نظام الأسد وروسيا أخيراً.
ويقول العامل بالشأن الإغاثي بإدلب، محمود عبد الرحمن، إن الأسعار شهدت أخيراً، بعد تراجع توريد تركيا وفرض رسوم على بعض السلع، ارتفاعات كبيرة، وخاصة بمادتي اللحوم والفروج، إذ وصل سعر كيلوغرام الفروج إلى نحو 850 ليرة، ولحم الخروف إلى نحو 4 آلاف ليرة.
وحول أسعار الخضر والفواكه، يبين العامل بالإغاثة، أن الأسعار معقولة، (بندورة 225 ليرة، والتفاح 250 ليرة، والباذنجان 300 ليرة، ومازوت 210 ليرات، وأسطوانة الغاز 5 آلاف ليرة)، ولكن المشكلة بتأمين المال، وخاصة بعد تراجع العمل الزراعي وأعمال البناء وترميم المباني المهدمة، خشية اجتياح إدلب من قوات الأسد وروسيا والتمهيد بالقصف اليومي، ما حد نسبياً من أسعار مواد البناء (كيس الإسمنت 1500 ليرة، وطن الحديد 260 ألف ليرة، وإيجار المنازل من نحو 50 ألف ليرة إلى 30 ألفا)، وزاد القصف من معاناة السوريين هناك وعودة النزوح باتجاه الحدود التركية.
سياسة إفقار
يرى المحلل الاقتصادي حسين جميل، أن ما يجري بسورية هو سياسة تفقير متعمدة يمارسها نظام بشار الأسد على السوريين، سواء بالمناطق المحررة أو الواقعة تحت سيطرته "بل إن السوريين بالمناطق المحررة أفضل حالاً، نتيجة توريد تركيا سلعا ومنتجات للمنطقة، وما يحوله لهم أهاليهم وأبناؤهم في الخارج".
ويتساءل جميل: ألا يعلم الأسد وحكومته أن إنفاق الأسرة يزيد عن 300 ألف ليرة، وأن الأجور مثبتة عند عتبة 40 ألفا، وألم يسألوا أنفسهم كيف يعيش السوريون؟
وعن الكيفية التي يعيش السوريون من خلالها ويتدبرون أمور معيشتهم، قال جميل: "أولاً نسبة السوريين غير الآمنين غذائياً، ووفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء بدمشق، هي 31% بالحد الأدنى، وبناء على آخر أرقام مكتب الإحصاء المتعلقة بإنفاق الأسرة، لا بد أن يكون راتب الموظف السوري 200 ألف ليرة شهرياً، وهذا يوازي، (بل أقل)، نسبة تراجع قيمة الليرة".
ويقول المحلل الاقتصادي لـ"العربي الجديد": "هناك محاولة لإذلال السوريين بلقمتهم، رأينا اعتمادهم مناورات مختلفة ليستمروا حتى اليوم، منها بيع المنازل والممتلكات، ومنها محاولات تغيير النمط الاستهلاكي بما يتناسب مع الدخل، أو البحث عن عمل ثان إن وجد، كما لا يمكننا تناسي التحويلات الخارجية التي تساعد السوريين بالاستمرار، وتساعد نظام الأسد وتمنع الليرة من الانهيار أيضاً" (نحو 5 ملايين دولار تحول لداخل سورية يومياً).
وعود حكومية
مثلما وعد وزير النفط بحكومة الأسد مراراً بأن أزمة المحروقات ستنتهي قريباً، كما وعد وزير الكهرباء ولم يزل، بتقليل ساعات التقنين، وعد مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في ريف دمشق جميل حمدان، بأن الأسعار ستشهد انخفاضاً مع بداية شهر آذار/مارس المقبل.
ولتأخذ الوعود صيغة التصديق، تستمر مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بدمشق بإصدار نشرة أسعارها الدورية التي تقل ربما عن نصف الأسعار الحقيقية بالأسواق، لتبقى حبرا على ورق، كما يقول السوريون، بواقع فلتان الأسعار وغياب الرقابة وتفشي الغش والتدليس بالأسواق.