تسبب الدمار الذي لحق بمختلف قطاعات الإنتاج جراء الحرب المستمرة في اليمن منذ نحو خمس سنوات، في سقوط أسواق البلد في قبضة السعودية والإمارات اللتين استفادتا من تمرير سلعهما بشكل كبير في مناطق سيطرة الحكومة، في وقت ظهرت فيه لوبيات للاحتكار في العاصمة صنعاء والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تمكنت من تحقيق منافع عبر التحكم بالمعروض من السلع، بينما يدفع المواطنون ثمن تحكم طرفي الصراع في القوت الشحيح.
وتشهد الأسواق اليمنية منذ مطلع 2015 فوضى مستمرة، تتمثل في ندرة العديد من السلع الرئيسية وارتفاع أسعارها بشكل كبير وتحكم التجار، من أبرزها الحليب ومشتقاته والزيوت والسمن والسكر والدقيق والبقوليات.
يقول فضل منصور، رئيس جمعية حماية المستهلك، إن الأجواء التي يشهدها اليمن تفضي إلى الاحتكار، موضحا أن تعقيد عمليات الاستيراد وتكاليف النقل المبالغ فيها، والازدواج الجمركي والضريبي بين الحكومة اليمنية وسلطات الحوثيين، وتأخير وصول البواخر وتفريغها، والإتاوات غير الرسمية التي تفرض عند النقاط الأمنية منذ خروج السلعة من ميناء الوصول أو المركز الحدودي إلى الأسواق، تقف وراء الارتفاع الكبير في أسعار السلع وندرتها والتحكم بها.
ويشير منصور في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى استمرار الإجراءات المتشددة من التحالف السعودي ـ الإماراتي في السماح بدخول السفن إلى اليمن، فضلا عن تشديد ضوابط الاستيراد، الأمر الذي يؤدي إلى تأخر وصول مدخلات الإنتاج، ما يدفع التجار المحليين إلى استيراد السلع من السعودية والإمارات في النهاية.
وحسب منصور، فإن التحالف السعودي الإماراتي أضحى مستفيدا من تعطيل المصانع اليمنية لصالح تشغيل مصانعه، وهو الأمر الذي ينتج عنه في نهاية المطاف تأثير مدمر على الاقتصاد اليمني جراء توقف المصانع وارتفاع معدل البطالة.
ومثلما تلاشت الكثير من المنتجات اليمنية في أغلب المحافظات الجنوبية والشرقية الخاضعة لسيطرة الحكومة، تلاشت أيضا العملة الوطنية وأصبح الحصول عليها يمثل عملية شاقة في مختلف التعاملات التجارية والمصرفية، لتحل محلها العملة السعودية، التي أضحت العملة شبه الرسمية، في "سعودة" لمختلف الأنشطة المالية والتجارية في هذه المناطق.
وكانت الحكومة اليمنية قد قررت قبل أكثر من عام، إغلاق ميناء الحديدة المطل على ساحل البحر الأحمر، غرب اليمن، وتحويل خطوط الشحن التجاري إلى ميناء عدن الخاضع لسيطرتها، حيث تتهم الحكومة الحوثيين باستخدام الحديدة لتهديد الملاحة الدولية وكمورد مالي كبير في دعم مجهودهم الحربي.
وفي الجانب الآخر، تحديداً في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، يؤكد تجار في صنعاء تحدثوا لـ"لعربي الجديد"، أن هناك الكثير من الممارسات التي يفرضها الحوثيون بحقهم بعدما فقدوا الكثير من نوافذ الدخل بحجة الحصول على الموارد ومسميات عدة كالرقابة وأخذ كميات كبيرة من بضاعتهم من أجل توزيعها على أتباعهم، الأمر الذي يضاف إلى أسباب عدم توفيرهم للسلع في الأسواق بشكل مستمر وارتفاع الأسعار.
ويعتبر نبيل عبد الواسع، الخبير الاقتصادي، أن أسواق صنعاء والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين تشهد مبالغة وازدواجية في الضرائب والجمارك وإتاوات وصعوبة في الاستيراد وتكاليف نقل باهظة تقصم ظهور التجار، الأمر الذي يجعل بعضهم يلجأ للاحتكار من أجل رفع الأسعار.
ويقول عبد الواسع إن "العوامل الكلية لوضع اليمن خلال سنوات الحرب، أتاحت بروز سوق سوداء تمارس نشاطها من وراء الكواليس، جانب منها بعلم السلطات المعنية، وهذه السوق غدت المتحكم بنسبة كبيرة من السوق، وهي التي تتلاعب بقوت المواطنين".
لكن مسؤولاً في الغرفة التجارية بصنعاء، فضل عدم ذكر اسمه، يقول إن "هناك محاولات جدية من قبل الغرفة ووزارة الصناعة أخيراً لضبط الأسعار وتقديم فواتير بدءا من المستوردين والمنتجين والوكلاء وكبار تجار الجملة وصولاً إلى تجار التجزئة".
أما أبو بكر عبيد، رئيس الغرفة التجارية التابعة للحكومة، فيشير إلى أن السلع الغذائية متوفرة في أسواق بعض المحافظات المحررة بالحد المقبول ولا يوجد اختفاء كامل لها، لافتا إلى أن زيادة الأسعار سببها تأخير الموافقات على الاعتمادات المستندية اللازمة للاستيراد، خاصة السلع الأساسية، وذلك بسبب عدم وجود محافظ للبنك المركزي بسبب الأحداث الأخيرة التي شهدتها العاصمة المؤقتة عدن، جنوب البلاد.
وشهد جنوب اليمن أخيراً اشتباكات بين الحكومة المعترف بها دولياً والمجلس الانتقالي، المدعوم من الإمارات، الذي انقلب على الحكومة في أغسطس/ آب 2019 وسيطر على عدن وعدة مناطق بالجنوب واشتبك مع القوات الحكومية في أعمال عنف هددت بمزيد من التفتيت لليمن، بينما ينتظر التوقيع على اتفاق برعاية الرياض يتضمن ترتيبات لتقاسم السلطة، وعودة الحكومة اليمنية إلى عدن.
وكانت قوات المجلس الانتقالي قد انخرطت في إطار التحالف العربي، الذي تدخل في اليمن في مارس/ آذار 2015 لإعادة حكومة عبد ربه منصور هادي، بعدما أطاح بها الحوثيون من صنعاء.
وفي ظل الصراعات المستمرة، يعاني اليمن من ترد في مختلف القطاعات. وتترّك الحرب تداعيات خطيرة على الاقتصاد، إذ تسببت في تهاوي العملة المحلية وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وتفاقم معدلات البطالة، وأصبح أكثر من نصف سكان اليمن البالغ عددهم 27 مليون نسمة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقارير رسمية.
وكان تقرير صادر حديثاً عن قطاع الدراسات الاقتصادية في وزارة التخطيط بالتعاون مع منظمة اليونيسف، قد قدر كلفة الفرص الضائعة في الناتج المحلي الإجمالي في اليمن جراء الحرب المستمرة منذ نحو خمس سنوات بحوالي 66 مليار دولار.
ومنذ بداية الحرب تم إفراغ البنك المركزي من الاحتياطي النقدي الأجنبي المقدر بنحو 5 مليارات دولار، وأكثر من ترليون ونصف ترليون من العملة الوطنية، الأمر الذي هز السوق المصرفية، التي تعاني من شح كبير في السيولة النقدية وانتشار عملة قديمة مكدسة وتالفة في مناطق سيطرة الحوثيين، وعملات أجنبية ونسبة من العملة الوطنية المطبوعة في مناطق الحكومة اليمنية.
وتسببت أزمة السيولة الحادة في وصول معدل التضخم إلى نحو 40 بالمائة، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة سلة الغذاء 60 بالمائة، وزاد متوسط أسعار المواد الغذائية بنحو 150 في المائة.
وتؤكد الأمم المتحدة في تقرير "خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن 2019"، الصادر في وقت سابق من العام الجاري، أن هبوط الريال اليمني وضع البلد الفقير على حافة المجاعة، وعجزت عشرات آلاف الأسر المعوزة عن شراء المواد اللازمة للبقاء على قيد الحياة.