في أزمة الليرة التركية

31 مايو 2018
سعر الليرة يتأثر بالعوامل الأمنية والاقتصادية والسياسية والمالية(Getty)
+ الخط -

يتفق خبراء اقتصاديون وسياسيون أتراك عديدون على أنه بين أسباب تفاقم الأزمة المالية في تركيا توتر العلاقات التركية مع عواصم عديدة، بينها واشنطن وتل أبيب، وتقارب أنقرة وانفتاحها المستمر على موسكو وطهران، وإهمال ملفات إقليمية عديدة، ساخنة ودائمة التوتر مع دمشق وبغداد والقاهرة والرياض وأثينا.

هذه الدول غاضبة من السياسة التركية الحالية، ولن يتردد بعضها في التورط في مخطط إضعاف الليرة للتأثيرعلى الاقتصاد التركي، وبالتالي الضغط سياسيا على صانع القرار التركي، لإجباره على مراجعة مواقفه وقراراته الإقليمية وتغييرها، أو المضي أبعد من ذلك إسقاط حكومة "العدالة والتنمية" التي تدير دفة الحكم منذ 16 عاماً.

عندما يقول المتحدث باسم الحكومة التركية، بكير بوزداغ، إن "من يعتقد أنّ التلاعب في سعر صرف الليرة سيغير من نتائج الانتخابات المقبلة مخطئ. الشعب كشف اللعبة، ولن يسمح لأحد بالنيل من تركيا"، فهذا يعني، بشكل أو بآخر، أنه سيكون لأزمة تراجع قيمة الليرة التركية ارتداداتها على قرار الناخب التركي ونتائج الانتخابات، لكن المشكلة الحقيقية قد تكون بعد إعلان النتائج هذه المرة، حيث ستزيد الأمور تشابكا وتعقيدا، خصوصا إذا ما جاءت الأرقام متقاربة، أو فتحت الأبواب أمام جولة انتخابات رئاسية ثانية، بسبب فشل أحد المرشحين في الحصول على أكثر من نصف أصوات المقترعين.

المشكلة إذا هي ليست فقط في مواجهة تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، واستهداف الاقتصاد التركي الصاعد، بل إرباك حزب العدالة والتنمية، وإضعاف شعبيته وحرمانه الأغلبية الكافية التي يريدها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد أسابيع، وتركه أمام ورطة اللاخروج من الصناديق.

الحكومة التركية هي التي فتحت الطريق أمام إخراج البلاد من أكبر أزمات مالية واقتصادية واجتماعية في العام 2002، ولعبت الدور الريادي في حذف أصفار العملة في العام 2005، مؤشرا على حالة الاستقرار والثقة بالثقل الاقتصادي التركي الإقليمي، ونجحت، خلال العام المنصرم، في رفع مستوى النمو الاقتصادي التركي بنسبة 7.4%، ليتجاوز توقعات المؤسسات المالية العالمية، وإيصال الصادرات في العام 2017 إلى نحو 160 مليار دولار، وضمنت بقاء تركيا جالسةً بين الدول العشرين الأقوى اقتصاديا.

لكن الحكومة التركية نفسها لا يمكن لها إغفال بعض الحقائق أيضا، وهي ارتفاع نسبة البطالة التي وصلت إلى أعلى مستوياتها في السنوات الأخيرة، حيث بلغت 13%، أو إخفاء رقم التضخم السنوي الحالي الذي وصل إلى 11%، وتراجع مدخرات البنك المركزي التركي إلى 110 مليارات دولار، بالمقارنة مع 125 مليارا قبل أشهر، فالتخفيف من ارتدادات الأزمة المالية لا يمكن فقط أن يتم عبر محاربتها نفسيا وإعلاميا، أو الرهان على أنها أزمة ظرفية مؤقتة، أو البحث عن أصابع المتآمرين من الداخل والخارج، فهناك حقيقة معاناة الاقتصاد التركي من خضات حادة، أوصلت الأمور إلى فقدان الليرة 21% من قيمتها في الأشهر الأخيرة.

تصر القيادات السياسية في الحكم على أن السعر المتداول في صرف الليرة أمام الدولار لا يمثل القيمة الحقيقية للعملة التركية، وأن الاقتصاد التركي قوي ومتماسك، والدليل استمرار خطط إنجاز المشاريع العملاقة، وطرح الجديد منها، وعدم إدخال أية تعديلات على برامج الدعم والإنفاق المالي والإنساني التركي داخل البلاد وخارجها.

لكن هناك حقيقة أخرى تقول إنه لا يمكن تجاهل التحول الجذري في العوامل المؤثرة على قرار الناخب التركي، حسب استطلاعات الرأي، والتهرب من مخاطر ما يجري، خصوصا أن غالبية أرقام هذه الاستطلاعات تضع هاجس الاقتصاد في مقدمة العوامل التي ستؤثر على قرار الناخب التركي. وبالمقارنة مع الانتخابات السابقة التي كانت تعطي الأولوية لملفات الإرهاب والأمن.

ثم هناك معضلة ضرورة الإسراع في تنظيم العلاقة بين الحكومة والمصرف المركزي لناحية الخيارات والقرارات الواجب اتخاذها بشأن مسألة مواجهة التضخم واستخدام معدلات الفائدة.
يقول البنك المركزي التركي إنه قادر على اتخاذ التدابير الكفيلة بإخراج تركيا من هذه الأزمة، لكن السلطة السياسية أيضا عندها ما تقوله، فهي لا تريد أن تتعارض خطط البنك المركزي وقراراته مع خططها وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية.

المعروف أن سعر صرف الليرة التركية بالدولار، كما الحال في أكثر من مكان، هو تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية كثيرة، بينها الاقتصادي والمالي والسياسي والأمني، لكن مشكلة الحكومة التركية اليوم هي في إيصال سعر صرف الليرة إلى السعر والقيمة الحقيقية التي تقابلها مع الدولار.

مشكلة أنقرة أيضا هي أن عملتها لم تفقد حوالي ربع قيمتها في الأشهر الأخيرة، بل هي فقدت حوالي 17% من قيمتها، بالمقارنة مع دول أخرى تعيش الأزمات نفسها. هل يكفي ذلك للحديث عن حجم الاستهداف الذي تواجهه العملة التركية؟ 

يقول رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إن الحكومة تعرف مصدر من يحاول التلاعب بالليرة، والمتعاونين معهم في الداخل، لكن أسباب انخفاض الليرة ما زالت قائمة، وتحذيرات وكالات التصنيف الائتماني المعروفة مستمرة، والتقارير الدولية السلبية عن الوضع الاقتصادي التركي ما زالت تنشر بشكل يومي تقريبا.

في المقابل، يرى خبراء اقتصاد أتراك وغربيون أن تأثير انخفاض الليرة التركية على الاقتصاد التركي لا يزال محدودا، لوجود بنية اقتصادية قوية متماسكة، لكن هناك من يردّد أيضا أن خطط التدخل السريع لا بد أن يواكبها قرارت تحمي ثقة المستثمر، المحلي والأجنبي، بالسوق التركية، وتوفر له ما يبحث عنه من ضماناتٍ سياسيةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ، تحمي برامج التمويل والاستثمار التي يعد لها.

مشكلة الاقتصاد التركي، كما يراها بعضهم في المعارضة، قد تكون أيضا في الرهان على قطاع البناء والإعمار في الأعوام الأخيرة باعتباره عاملا أساسيا مؤثرا في قوة الاقتصاد، بدلا من الاستثمار في القطاعات الصناعية والزراعية والتكنولوجيا التي تستوردها تركيا من الخارج.

لذلك لا يمكن لأنقرة أن تكتفي، في المرحلة المقبلة، برمي الكرة في ملعب المتآمرين على اقتصادها وارتدادات الأزمات المالية العالمية على أوضاعها، بل هي ستأخذ حتما الحاجة إلى مراجعة خططها الاقتصادية والمتغيرات الإقليمية والدولية بالاعتبار، وستحدد سياساتها وقراراتها المالية والاقتصادية على ضوء ذلك.

تغيرت الأحوال الاقتصادية التركية وطريقة إدارة الأمور في البلاد منذ العام 2002، تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وبعد كل أزمة اقتصادية مالية كانت تواجهها تركيا، تدخل البنك المركزي، على طريقته المعروفة، ورفع سعر الفائدة في أغلب الأحيان، وأعلن هدنة مؤقتة ترضي الجميع.

لم تعد الأمور اليوم تدار في تركيا بالأسلوب والمنطق نفسه، فالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هو الذي يستدعي رئيس المصرف المركزي إلى مقر حزب العدالة والتنمية في أنقرة، ليبحث معه التدابير والقرارات الواجب اتخاذها غير الحل الكلاسيكي المعروف الذي يقدمه البنك المركزي التركي.

ترى حكومة "العدالة والتنمية" أن من بين سلبيات رفع سعر الفائدة أنه سيؤدي إلى انكماش اقتصادي، يؤثر على البورصة والاستثمار، لكن هناك من يقول، في المقابل، إنها خطوة ضرورية لا بد منها، إذا ما أرادت تركيا الاستمرار في جذب رؤوس أموال أجنبية، للاستثمار في مشاريعها وخططها الاقتصادية الإنمائية الداخلية، وإن سياسة الاستمرار في ضخ النقد الأجنبي في سوق الصرف لإحداث توازن بين العرض والطلب لن تكون كافيةً، بل ستؤدي إلى استمرار سحب وتهديد الاحتياطي النقدي التركي نفسه. 

فقد احتياطي البنك المركزي التركي بعض المليارات في الأشهر الأخيرة بسبب هذه الأزمة، لكن ارتداداتها الحقيقية ستكون على المواطن والحياة اليومية، وصادرات تركيا ووارداتها التي تحتاج شهريا إلى حوالي أربعة مليارات دولار، لحماية عملية التوازن الاقتصادي والمالي.

وقد حرّك قرار الانتخابات المبكرة في تركيا بعض اللوبيات العالمية المنزعجة من سياسات حزب العدالة والرئيس أردوغان، ومواقفهما وأسلوبهما في التعامل مع ملفاتٍ سياسية واستراتيجية داخلية وخارجية.

الازمة المالية الحالية بين أسبابها حتما هذا الاستهداف المباشر لتركيا، لكن المؤكد أنها ستزيد كلما اقترب تاريخ 24 يونيو/ حزيران المقبل، موعد الانتخابات في البلاد.

(كاتب وأستاذ جامعي تركي)
المساهمون