على حافة ميدان التحرير، جلس خالد عبد الرؤوف، على أريكة مطلة على الساحة الواسعة، يتذكر رفاق الجامعة، الذين استشهدوا على مقربة منه، أثناء اندلاع ثورة 25 يناير 2011.
"عيش، حرية، عدالة اجتماعية". شعارات رددها آنذاك الشاب الثلاثيني مع المتظاهرين الذين توافدوا من كل حدب وصوب إلى وسط ميدان التحرير، عقب هروب جحافل قوات الأمن، بعد أن أوسعت الآلاف منهم ضربا بالهراوات والرصاص المطاطي، وأخرى من طرف ثالث، كمنت في جحور فوق الأبنية المحيطة بالتحرير، تطلق النار، دون أن تلاحقهم تحقيقات، ولم يعرف أحد آمرهم حتى الآن.
يتحسّر الرجل على ثورة خانها كثيرون، فمنهم من سرق أحلامهم طمعا في ثروة وسلطان، وآلمه أن الشعب المشتاق للحرية زاد تعطشه لها، ويعيش أسوأ أزمة معيشية، تهدد حياته ومستقبله.
ميادين السلع الرخيصة
على مرمى البصر يرى خريج الجامعة، الذي حصل مؤخرا على وظيفة محصل بمحل للحلوى وسط العاصمة، آلاف البشر يهرولون على مسارات مرور، تتعارض إشاراتها مع حركة المواطنين والسيارات، وآخرين ينظرون إلى الصحف الملقاة أمام بائع الجرائد الشهير بالميدان، تبشر بـ "محاربة الحكومة للغلاء وتوفيرها السلع المخفضة للمواطنين في رمضان".
يسخر عبد الرؤوف من صحف الصوت الواحد، والعنوان الواحد، التي لم يعد يلتفت إليها أحد، فلا تكتب عن الجوعى الذين اختفوا من طوابير الخبز، ليحجزوا أماكنهم أمام عربات تجوب شوارع العاصمة، تابعة لشركات "وطنية" المملوكة للجيش، و"أمان" التابعة لوزارة الداخلية، والجمعيات الاستهلاكية المملوكة لوزارات أخرى، للحصول على أي سلعة تسد رمق أولادهم.
يتعجب عبد الرؤوف من البون الشاسع بين من خرجوا للميدان بالأمس البعيد، سعيا إلى توفير الخبز مرهونا بالكرامة والحرية، منذ سنوات، بينما كانت الأوضاع الاقتصادية أفضل حالا، وهرولة الشعب حاليا للميادين حيث تأتي السلع الرخيصة للمعارض أو السيارات المتنقلة.
يقول عبد الرؤوف: لم يكن الثوار جوعى للخبز، مع ذلك خرجوا لدعم الفقراء، بينما يتزاحم الأغنياء والفقراء الآن على السلع المخفضة، بعد صدمتهم من غلاء الأسعار وشح السلع، بما سبب لديهم قلقا من مستقبل غامض، ويدفعهم للغليان.
جاء كلمات الشاب الثلاثيني ملخّصة حالة اقتصادية شهدت انقلابات عنيفة، استهدفت تغيير بيئة الأعمال، وخلق طبقة اجتماعية وسياسية جديدة، تسيطر على سوق المال والأعمال.
على مدار سنوات، تبدلت القوانين، بما يسمح للنظام، إسناد تنفيذ المشروعات العامة بالإسناد المباشر، دون سقف مالي، أو خشية من سلطة محاسبة. اختفى دور البرلمان والأجهزة الرقابية، وفرضت الرقابة على الصحف، وقيدت جمعيات رجال الأعمال، فأصبح الاقتصاد بأسره يدور بأوامر من مؤسسة الرئاسة، وينفذ عبر شركات الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والداخلية، وقليل من القطاع العام.
تراجع دور القطاع الخاص، شلت يده عن الاستثمار في الزراعة، وأدت الأزمات الأمنية والصحية إلى تدهور أحوال السياحة، وتأثرت الصناعة بشدة، مع سياسات مالية عنيفة أدت إلى تدهور قيمة الجنيه، وارتفاع معدلات التضخم لأرقام غير مسبوقة.
تآكل الرواتب وصعوبة المعيشة
يرصد موقع "ناميبو" المتخصص في إحصاءات الأسعار، تآكلا متواصلا لمتوسط رواتب المصريين، منذ عام 2012، ليصل عام 2023، إلى مستوى أقل من سيرلانكا المفلسة، وغانا التي في طريقها إلى الإفلاس، وتحت مستوى نيجيريا وباكستان وفنزويلا التي شهدت انقلابين، ونيبال شحيحة الموارد، وبنجلاديش مزدحمة السكان، والجزائر المليئة بالفساد، وأوزبكستان.
يقدر الموقع متوسط تكلفة معيشة 4 أفراد بنحو 274.3 دولارا شهريا، مشيرا إلى أن متوسط دخل الأسرة رباعية العدد، وصل في مصر، عام 2012 إلى 328.3 دولارا، انخفض إلى 254 دولارا عام 2013، وظل متأرجحا، طوال تلك الفترة بين صعود وهبوط، دون تجاوز نقطة البداية، ليستقر عند 234.8 دولارا عام 2022، مع توقع تدهوره إلى 134.6 دولارا عام 2023.
يعكس التقرير التحولات الخطيرة التي مر بها الاقتصاد، حيث وجهت موارد الدولة إلى الاستثمار في مشروعات عقارية وطرق نقل وكهرباء، امتصت نحو 8 تريليونات جنيه، خلال الفترة من 2014 إلى 2022، وفقا لتصريحات رئاسية.
قفزة في الديون
توسعت الحكومة في الحصول على قروض أجنبية، رفعت حجم الدين الخارجي من 42 مليار دولار عام 2013 إلى 157 مليار دولار منتصف عام 2022، عدا القروض التي حصلت عليها شركات عامة وبنوك وجهت بضمان من وزارة المالية، لسداد التزامات الحكومة لدى الدائنين أو تمويل برامج حددتها تعليمات رئاسية.
تحولت الوزارات إلى جهات تنفيذية للخطط التي وضعت بمؤسسة الرئاسة تحت إشراف مباشر من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والشركات التابعة لها، وصفها خبراء بأنها مشروعات غير ذات جدوى اقتصادية أو عديمة الفائدة، ويمكن تأجيلها، من بينها توسعات تفريعة قناة السويس، والتوسع في محطات توليد الكهرباء، بما يزيد عن الطلب بالبلاد، والقطار الكهربائي، والمونوريل، وإقامة الأبراج، والمقار الحكومية، عدا القصور الرئاسية والجسور والطرق الشاسعة، الزائدة عن الحاجة بالتوسعات العمرانية الجديدة.
يؤكد خبراء بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية، أن غياب الرؤية الاقتصادية والمشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات، أدى إلى تدهور حاد في الاقتصاد المصري، ساهم في تآكل الاحتياطي النقدي والضغط على العملة، ورفع مستوى الديون إلى معدلات غير مسبوقة، حتى "أصبح غير قادر على توليد فرص عمل جديدة"، وأدخل العمال والخريجين بمحافظات لم تعرف البطالة من قبل مثل دمياط في مستنقع العاطلين.
تبدي مؤسسة "فيتش" المالية مخاوفها من هشاشة المركز المالي للدولة، في وقت تزايدت نفقات المعيشة وتضاءل الاحتياطي النقدي، وتراجعت قيمة الجنيه، بما أفقده نحو 60% بعد التعويم الأول عام 2016، و75% أخرى، عبر تعويمين شهدهما عام 2022، و7% جديدة، مطلع الشهر الحالي.
تتوقع "فيتش" في تقرير صدر منذ أسبوعين، أن تؤدي سياسات الحكومة النقدية إلى زيادة في تكلفة خدمة الديون، وتصاعد الضغط المالي على الميزانية العامة، والمزيد من الاعتماد على تدابير مالية خارجية، وخفض الإنفاق الاستثماري، بما يؤثر بشكل أكبر على النشاط الاقتصادي ويرفع تكاليف المعيشة، و"يثير مخاوف من اندلاع اضطرابات اجتماعية خلال فترة من 12 إلى 18 شهرا" في مصر والمنطقة.
سطوة صندوق النقد
بعد اشتداد الأزمة المالية، اتخذت الحكومة إجراءات عاجلة، لترشيد النفقات، منها حظر سفر أعضائها والمسئولين للخارج، بدون إذن مسبق من رئيس الوزراء، وتأجيل مشاريع جديدة تتطلب الدولار، وتأخير التمويل لأي شيء غير ضروري. أمام تصاعد المخاطر من عدم قدرة الدولة على سداد الديون إذا لم يتحسن الوضع المالي، ألزم صندوق النقد الدولي الحكومة ببيع أصول شركات تابعة للجيش والقطاعين العام والحكومي، ووضعهم في حساب مخصص بالبنك المركزي، يضمن تراكم الاحتياطي النقدي لسداد الديون، وإعادة الهيكلة للاقتصاد.
تضمنت الشروط الحد من تدخل الجيش والأجهزة السيادية في إدارة الاقتصاد، وإزالة الإعفاءات الممنوحة لشركات الجيش والجهات الأمنية والقطاع العام والهيئات الاقتصادية والتي يشارك بها القطاع الرسمي، وإعادة هيكلة نظام تخصيص الأراضي الصناعية بحلول يونيو المقبل. تستهدف الشروط، نشر أسماء ورواتب ومكافآت رؤساء الشركات وميزانية الشركات والدولة، ومراجعتها دوريا من قبل خبراء الصندوق ومن يطلبها لتعزيز الشفافية والحوكمة، عبر إجبار الشركات والهيئات على دفع قيمة المياه والكهرباء وفقا للتكلفة، ومنع البنك المركزي من دعم الفائدة البنكية للمشروعات الصناعية والزراعية والعقارات والسياحة.
يعلم خبراء صندوق النقد قدرة الحكومة على المراوغة في ما يتعلق بخصخصة الشركات التابعة للأجهزة السيادية، في دولة تديرها مؤسسات عميقة، استطاعت تغيير مسار ثورة شعبية ضخمة، وإحداث تحولات جذرية في إدارة مجتمع الأعمال، لصالح النخبة الجديدة المدعومة والقادمة من المؤسسات الأمنية والسيادية، مع ذلك ارتضوا بموافقة الحكومة على التزامات تضع المواطن في مهب أزمات طاحنة.
خفض الدعم
تعهدت الحكومة بخفض خطط الدعم البالغ 361 مليار جنيه خلال العام المالي الحالي المنتهي في يونيو/ حزيران المقبل، عبر مسارات عدة تشمل، مضاعفة الزيادة في سعر الوقود التي تتحرك كل 3 أشهر بنحو 25 قرشاً للتر، إلى مضاعفة هذا المبلغ، وإزالة الحد الأقصى من 10%، إلى ما تقرره لجنة وزارية، تعقد شهريا برئاسة رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، حتى تنتهي الحكومة من تحرير كامل لأسعار الوقود والطاقة خلال فترة لا تتجاوز 3 سنوات.
سيتم تحويل الدعم العيني إلى نقدي، وقصره على الأسر شديدة الفقر، عبر برامج "تكافل وكرامة"، بينما ستحصل الأسر متوسطة الدخل على تخفيضات في ضريبة الدخل. ستتولى الحكومة إدخال رجال أعمال في مجالس إدارة المدارس العامة، لمساعدة الحكومة على توفير التمويل اللازم للمدارس، دون زيادة الموارد من الموازنة العامة، بما سيحمل المواطنين ضغوطا تدفعهم إلى الإنفاق على التعليم الخاص.
رياح الغلاء
وقع المواطن في مهب أزمات طاحنة، تذره رياح الغلاء العاتية التي تطحن ثلث السكان الذين يمثلون الطبقة الوسطى، ممن يتحملون بالكاد القدرة على توفير مستلزماتهم من السلع اليومية، وقليل من نفقات التعليم والذهاب إلى الأطباء. تتدحرج تلك الطبقة إلى الثلث الأخير الأشد فقرا، الذي لا يقدر على توفير وجبتين مشبعتين يوميا، وفقا لتصنيف البنك الدولي للفقر، دون الوقوف في طوابير السلع التي توزعها القوات المسلحة والداخلية وهيئة السلع التموينية ومبادرات الغرف التجارية بالمحافظات.
وفي وقت طلبت فيه 60 شركة للأدوية رفع أسعارها بنسبة 25%، مع تراجع الجنيه غير المسبوق ليصل إلى نحو 30 جنيها أمام الدولار، تدرس الحكومة توزيع الخبز بسعر التكلفة، للمحرومين من الدعم التمويني، ومن سيخرجون عن نظام الدعم، وفقا لتعهداتها مع صندوق النقد خلال المرحلة المقبلة. تهتم الحكومة بتنفيذ اتفاق يخرجها من إدارة 79 قطاعا إنتاجيا وخدميا، يحول دون استثمارها في قطاع الزراعة الأكثر توظيفا للعمالة، ويسرع ببيع المصانع الرابحة لشركاء دوليين، وعبر صندوق سيادي، رفعت أصوله إلى نحو 400 مليار جنيه، الشهر الماضي، تمهيدا لإشرافه الكامل على بيع الأصول العامة للأجانب وفي البورصة، وفق حصانة قانونية ودعم من المحكمة الدستورية، بألا يعترض على صفقاته، إلا البائع والمشتري.
حصنت الحكومة مراكز قوتها، في مواجهة رافضي هيمنة المؤسسات السيادية على إدارة الاقتصاد، وبيع ثروات الشعب، مع ذلك تقف عاجزة عن ملاحقة تداعيات أزمة مالية تتصاعد، وتعلن عن نفسها في ارتفاعات يومية في أسعار الغذاء التي بلغت نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، نسبة 30.9%، بالطعام والمشروبات، و40.4% للألبان والبيض، و30% باللحوم، بينما جاءت الحبوب والخبز على قائمة الارتفاعات بنسبة 52.1% وفقا لجهاز الإحصاء والتعبئة الحكومي.
تراجع الجنيه
يتوقع دويتشه بنك في تقرير أصدره الأسبوع الماضي، أن يستمر الجنيه في تراجعه أمام الدولار، بنسب تتراوح ما بين 10% إلى 33% خلال الأسابيع المقبلة. يتوافق ذلك مع تحليلات لمؤسسات مالية أخرى ذكرت أن قيمة الجنيه الحقيقية، ما زالت أقل 25% عن المعدل السائد حاليا بالأسواق.
تعلم خالد عبد الرؤوف ذاك الشاب المشارك في ثورة 25 يناير، بعضا من مبادئ علم الاقتصاد بالجامعة، تجعله يراقب زيادة معدلات البطالة، بعدما أصبح الاقتصاد تديره مؤسسات أسرفت في إهدار موارده، ووجهته إلى مزيد من الاستيراد، للاستفادة من قروض عاجلة، وظفتها في صناعة طبقة جديدة مرتبطة المصالح وبالدولة العميقة، التفت على الثورة، وتنفق المليارات على تأمين حصون تمنع مظاهرات غضب جديدة، في ميدان التحرير.