استمع إلى الملخص
- التعليم يعاني بشكل كبير، حيث تحولت نصف المدارس العامة إلى ملاجئ للنازحين، مما أدى إلى تعطيل التعليم وتدمير المدارس، مع خسائر اقتصادية ضخمة وتأثيرات سلبية طويلة الأمد على الإنتاجية والنمو.
- الهجرة شهدت ارتفاعًا غير مسبوق، حيث تشكل الفئة الشابة والكوادر المهنية النسبة الأكبر من المهاجرين، مما يؤدي إلى نزيف بشري يهدد التعافي الاقتصادي والاجتماعي. التحويلات المالية لا تعوض الخسائر الناتجة عن فقدان العمالة الماهرة.
لا حكومة، لا رئيس جمهورية، لا قضاء فاعلا، لا أمن، لا مؤسسات عامة، لا خدمات. الموجود هو مجلس نيابي خامل بلا دور ولا قيمة، واقتصاد منهوب مفلس. بمقومات صفر، يواجه لبنان حرباً إسرائيلية هي الأعنف والأقسى منذ أكثر من 34 عاماً. إلا أن بعض الأرقام تشير إلى ما هو أبعد من كارثة قد تنتهي مع الحرب أو مع انتخاب رئيس أو مع تفعيل مؤسسات واقتصاد. أرقام تتعلق بمؤشرين فقط، تقول إن الدمار في بنية الاقتصاد اللبناني، الذي بدأ منذ تشكيل دولة ما بعد الحرب الأهلية، وانفجر في العام 2019، واستكمل دورة الانهيار ليصل إلى حطام خالص مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة، هذا الدمار سيستمر لأجيال مقبلة، إن لم يكن هنالك من مسعف.
الرقم الأول عن نسبة التعليم في لبنان. ففي مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، قالت منظمة إنقاذ الطفولة إن نصف المدارس العامة في لبنان (تقريباً 500 مدرسة) تحولت إلى ملاجئ للنازحين قسراً في الأسبوعين الماضيين، مما أدى إلى تعطيل تعليم الأطفال للعام السادس على التوالي.
كما أكدت وزارة التربية والتعليم العالي اللبنانية أن الغارات الجوية الإسرائيلية أجبرت نحو 40% من تلاميذ لبنان البالغ عددهم 1.25 مليون تلميذ على النزوح من منازلهم، مع تدمير مئات المدارس الخاصة والعامة في المناطق المعرضة للقصف والهدم الكامل، وتم تأجيل بدء العام الدراسي في المدارس الحكومية الذي كان من المفترض أن يبدأ في 14 أكتوبر، ومن المتوقع تأجيله إلى أبعد من هذا التاريخ.
وقد عزز هذا التراجع قرار خفض أيام التدريس من 180 إلى 120 يوماً في عام 2016 لأسباب مالية. ومن ثم تم خفض الأيام إلى 96 يوماً في العام 2020، وصولاً إلى 60 يوماً من التدريس الفعلي قبل الحرب الإسرائيلية.
ويؤكد مركز الدراسات اللبنانية أن الإنفاق المرتفع على التعليم العام والخاص خلال السنوات العشر الماضية بلغ 43 مليار دولار. وبالتالي فإن هذا الإغلاق الناتج من السياسات الحكومية السيئة تجاه التعليم ومن ثم هدم المدارس الناتج من الحرب المدمرة، يمحي مليارات الدولارات من الاستثمار المتراكم خلال السنوات الماضية على القطاع التعليمي. ليس ذلك فقط، إذ يمكن القول إن تأثيرات إغلاق المدارس في لبنان توصل إلى زيادة معدلات الفقر لأجيال مقبلة، وانخفاض الإنتاجية العامة للاقتصاد، وتراجع معدلات النمو على المدى الطويل.
وتشير تقديرات نشرتها مجموعة العمل المستقل من أجل لبنان إلى أن كل شهر من فقدان التعليم سيكلف الاقتصاد اللبناني ما لا يقل عن 50 مليون دولار من الناتج الاقتصادي الضائع، مما يعني تكلفة سنوية لتعطيل التعليم تصل إلى 600 مليون دولار. كما يقدر البنك الدولي أن الأمر سيستغرق أجيالاً في لبنان للتعافي من الصدمات المتتالية التي تعرض لها تعليم الأطفال.
وعملياً، يتعرض طلاب المناطق الأكثر فقراً خاصة لخسائر دائمة في الدخل تطاول كل حياتهم، بعد إغلاق المدارس لمدة عام واحد. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن إغلاق المدارس الطويل يؤدي إلى زيادة الفقر بين الأجيال، لأن العوائق التعليمية تعمق الفوارق الاجتماعية وتزيد من تفاوت الدخل بين الأسر. وبالتالي يمكن توقع تأثيرات سلبية متسلسلة على الاقتصاد من خلال تقلص القوى العاملة الماهرة خلال الأجيال المقبلة مع تدمير البنية التحتية التعليمية في لبنان.
الرقم الثاني يتعلق بمستويات الهجرة. قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، كان عدد المهاجرين اللبنانيين 1.327 مليون نسمة، أي ما يشكل نسبة 25.4% من العدد الإجمالي للبنانيين، وفقاً لأرقام مركز الدولية للمعلومات. وكان متوسط الهجرة السنوي حتى عام 2022 يصل إلى 59 ألف لبناني، وإذا به يقفز إلى 180 ألف لبناني مهاجر في العام 2023، وهو عام بدء الحرب الإسرائيلية، ما اعتبر أعلى موجة هجرة على الإطلاق.
وتؤكد التوقعات أن عدد المهاجرين سيرتفع أكثر في العام 2024، خاصة مع نزوح مليون شخص داخلياً، وهؤلاء بنسبة كبيرة منهم تعرضوا إلى تدمير منازلهم ومحالهم وتوقف أعمالهم نهائيًا أو جزئيًا، ما سيدفع إلى موجة هجرة جديدة وواسعة النطاق خلال السنوات المقبلة، خاصة ما بين الفئة الشابة التي تشكل عادة نحو 40% من نسبة المهاجرين.
اللافت في هذا النطاق أن النسبة الأضخم من المهاجرين تتألف من الكوادر المهنية المؤثرة اقتصادياً، نظراً لتوافر الفرص في الخارج ولمتطلبات الهجرة المشروطة في عدد كبير من البلدان المستقبلة.
بذلك، يخسر لبنان بسبب نهب الاقتصاد ونتيجة الحرب الأخيرة الآلاف من الأطباء، والمعلمين، والمهندسين، والعاملين في القطاع التكنولوجي والخدمات المالية وغيرهم من المتخصصين، ويشكل هذا النزيف البشري تحديًا كبيرًا أمام التعافي الاقتصادي والاجتماعي للبلاد خلال السنوات المقبلة.
وفيما يتغنى عدد من السياسيين بجهل وغالبًا بمكر بتحويلات المغتربين التي تسند الاقتصاد، إلا أن هذه الخطابات ليست سوى محاولات لإخفاء فشلهم في إدارة الاقتصاد، إذ إن الخسائر الناتجة من فقدان آلاف العمال المهرة من سوق العمل سنويًا أكبر بكثير من حجم التحويلات السنوية التي لا تتعدى 7 مليارات دولار، وأعمق بكثير في تأثيراتها على بنية الاقتصاد المشوه، بتداعيات تمتد إلى أجيال مقبلة.
مؤشران فقط من بين عشرات المؤشرات الاقتصادية السلبية يؤكدان أن النظام المافيوي الميليشيوي في لبنان، كما الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه، يحولان البلد من صرح تعليمي ومهني كان له دور في نهوض الاقتصاد على مر السنوات الماضية إلى بقعة تتمدد فيها الأميّة، ويتحول فيها الاقتصاد إلى سوق سوداء ضخمة فارغة من مقومات النمو ومن فرص التعافي ليس لسنوات قليلة مقبلة، وإنما لأجيال قادمة.
لعلها وصفة أساسية لتعميق التبعية لأحزاب النهب والفساد والإجرام من جهة، وإبقاء لبنان دولة ضعيفة على خاصرة إسرائيل، تشحذ المساعدات والمنح من دون أي قدرة على بناء حاضر مختلف ولا مستقبل مغاير.