في بداية شهر أغسطس/آب الحالي، انتهت ولاية حاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة، ليتسلّم صلاحيّاته نائبه الأوّل وسيم منصوري، كما ينص قانون النقد والتسليف، بعد أن فشلت الحكومة في الاتفاق على تعيين حاكم جديد بولاية كاملة في المصرف.
وبهذا الشكل، يكون لبنان قد طوى صفحة حاكميّة رياض سلامة، التي استمرّت لثلاثة عقود متتالية من الزمن، تمكّن خلالها سلامة من الهيمنة على السياسة النقديّة بأقل قدر ممكن من الشفافية أو الرقابة على أعماله.
في واقع الأمر، يحزّ في قلب كثير من اللبنانيين ألّا يغادر سلامة منصبه إلا في نهاية ولايته، معزّزًا ومكرّمًا باحتفالات في باحة المصرف المركزي، بينما كان من المفترض أن يتم عزله قبل سنوات عديدة، بوصفه أحد المسؤولين الرئيسيين عن السياسات التي قادت العملة المحليّة والنظام المصرفي نحو الانهيار الكبير.
يحزّ في القلوب أكثر، أن يغادر الرجل منصبه إلى منزله حرًا طليقًا، ومحميًا من الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة
ويحزّ في القلوب أكثر، أن يغادر الرجل منصبه إلى منزله حرًا طليقًا، ومحميًا من الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، مستفيدًا من العراقيل التي تؤخّر الإجراءات القضائيّة في ملفّه الجنائي في لبنان، والمرتبط بتهم اختلاس أموال المصرف المركزي والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال وصرف النفوذ.
هذا المشهد المُستفز لفئات واسعة من الشعب اللبناني، لم يكن ليُبصر النور لولا التواطؤ السياسي الذي ذهب باتجاه تغطية الرجل وحمايته، وإبقائه في منصبه حتّى اللحظات الأخيرة، بالرغم من صدور مذكرتي توقيف بحقّه من قبل "الإنتربول"، بناءً على طلب المحاكم الألمانيّة والفرنسيّة، التي تحقق في قضايا اختلاس أموال عموميّة لبنانيّة.
وبذلك، شهد لبنان ظاهرة يصعب تذكّر سابقة تشبهها في التاريخ الحديث: أن يترك قطاعه المصرفي وسياسته النقديّة تحت قيادة مطلوب دولي من الطراز الرفيع، في اقتصاد مدولر لا يستطيع قطع علاقاته الماليّة مع الخارج.
في لبنان، ثمّة من يقول إن شراكة سلامة مع السياسيين اللبنانيين، وإلمامه بأسرار المنظومة الحاكمة في لبنان، بل وعمله لحساب هؤلاء في المصرف المركزي، هو ما دفع الجميع إلى حمايته، بمعزل عن أكلاف هذه الحماية وتبعاتها.
فعلى هذا النحو مثلاً، وزّع سلامة مغانم وأرباح الهندسات الماليّة قبل الانهيار، على أقطاب السياسة اللبنانيّة من مختلف التوجّهات، من خلال بعض المصارف التي تدور في فلك هؤلاء.
وبعد الانهيار، تحوّلت آليّات دعم الاستيراد إلى باب من أبواب تحاصص الأموال العموميّة، عبر توزيع دولارات الدعم على التجّار المحسوبين على مختلف القوى السياسيّة.
ومنذ إطلاق منصّة صيرفة، تحوّلت المنصّة إلى أداة لتوزيع الدولارات بالسعر المدعوم، أو تقديم العمولات للصيارفة المحظيين مقابل شراء الدولارات من السوق، ما أعطى سلامة مساحة لبناء تقاطعات جديدة في المصالح مع السياسيين.
تقدّر خطّة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة، حجم خسائر المصرف المركزي وحده بنحو 60 مليار دولار
لكن بمعزل عن خبايا المراحل السابقة، قد يكون من المفيد اليوم مراجعة التركة التي أورثها سلامة لنائبه الأوّل، ولمن سيتم تعيينه في منصب الحاكم لاحقًا. فهذه التركة الثقيلة، التي يجب معالجتها، ستلقي بظلالها على أي سياسة نقديّة أو خطّة عمل جديدة يمكن تبنّيها في المستقبل، بمعزل عن هويّة من يدير المصرف المركزي. كما من المفيد مراجعة الخطوات المطلوب اتخاذها الآن، للتمكّن من الانطلاق باتجاه هذه المعالجات.
فسلامة سيورث خلفه ميزانيّة متخمة بالقيود التي جرى تسجيلها بعيدًا عن أي معيار محاسبي علمي، بهدف إخفاء الخسائر التي كانت تتراكم قبل حصول الانهيار عام 2019، والتي ظلّت تتراكم بعده.
وتقدّر خطّة التعافي المالي التي وضعتها الحكومة، بمشاركة ممثّل عن المصرف المركزي نفسه، حجم خسائر المصرف المركزي وحده بنحو 60 مليار دولار، أي ما يوازي 58% من حجم الميزانيّة الإجماليّة للمصرف.
وجميع هذه الخسائر كانت تأكل من موجودات المصرف المركزي، فيما تفادى سلامة الاعتراف بها، عبر قيد موجودات وهميّة مقابل الموجودات التي خسرها.
ولهذا السبب، ولمعالجة هذا التشوّه في المعايير المحاسبيّة المعتمدة من المصرف المركزي، سيحتاج المصرف إلى إعادة هيكلة الميزانيّة بشكل جذري، توخيًا للشفافية في الإفصاح عن المعلومات الماليّة والنقديّة.
أمّا معالجة الخسائر نفسها، فسيحتاج إلى التكامل مع التشريعات التي يجب أن يقرّها المجلس النيابي، لتحديد طريقة التعامل مع الفارق الكبير بين التزامات المصرف المركزي وموجوداته المتبقية بالعملة الصعبة.
ولطيّ صفحة الغموض الذي يكتنف أرقام المصرف المركزي، وللمزيد من الشفافية أمام الرأي العام، قد يكون من المفيد أن يتم نشر التدقيق المحاسبي في حسابات المصرف، الذي أنجزته شركة KPMG، بناءً على طلب صندوق النقد الدولي، الذي يغطي كامل الفترة الممتدة من 2015 ولغاية 2021.
مع الإشارة إلى أنّ الصندوق تساءل في البيان الختامي لمشاورات البعثة الرابعة عن سبب عدم نشر هذا التقرير من قبل حاكم المصرف المركزي، إذ يمكن لهذا التقرير أن يقدّم إلى اللبنانيين المزيد من الأجوبة بخصوص كيفيّة تراكم خسائر المصرف، التي أطاحت تدريجيًا أموال المصارف التجاريّة المودعة فيه.
ومن المعلوم أيضًا أن شركة "آلفاريز آند مرسال" أنجزت أخيرًا عمليّة التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي، والتي يفترض أن تحدد مكامن الشبهات الأساسيّة في تحويلات المصرف وعمليّاته، خلال السنوات الماضية. وفي الوقت الراهن، وبعد أن وضع سلامة، قبل مغادرته منصبه، ملاحظاته على التقرير، ينتظر وزير الماليّة والمصرف المركزي التقرير النهائي من جانب الشركة.
سيورث سلامة خلفه سياسة نقديّة مشوّهة، تستند إلى المنصّة التي لا تخضع لأبسط معايير الشفافيّة في تداول العملة الصعبة وتحديد سعر الليرة
وعلى هذا الأساس، سيكون بإمكان نائب الحاكم الأوّل، ومن بعده الحاكم الجديد، أن يستفيد من هذا التدقيق، للمضي قدمًا والتحقيق في الشبهات التي يحددها التقرير. مع الإشارة إلى أنّ التحقيق في كيفيّة تبديد أموال المصرف المركزي، وفي هويّة الفئات المستفيدة من السياسات السابقة، يفترض أن يكون المعيار الحاسم لتحديد المسؤوليّات وتوزيع الخسائر في المرحلة المقبلة.
أمّا في حال التقاعس عن استكمال هذا المسار، فستكون إدارة المصرف المركزي الجديدة قد قررت المضي قدمًا في سياسة الإفلات من العقاب، وفق مبدأ "عفا الله عمّا مضى".
في الوقت نفسه، سيورث سلامة خلفه سياسة نقديّة مشوّهة، تستند إلى المنصّة التي، وكما أشرنا سابقًا، لا تخضع لأبسط معايير الشفافيّة في تداول العملة الصعبة وتحديد سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
وهنا، سيواجه خلف سلامة تحدّي تعويم سعر صرف الليرة، من خلال آليّة جديدة، من دون انسحاب المصرف المركزي كليًا من مهمّته البديهيّة، المتمثّلة بمحاربة المضاربة والتدخّل لحفظ قيمة الليرة اللبنانيّة. كذلك يفترض أن تسمح هذه الآليّة الجديدة بتأمين العملة الصعبة، التي تحتاج الإدارات العامّة لشرائها من السوق.
في مؤتمره الصحافي، الذي تزامن مع خروج سلامة للمرّة الأخيرة من المصرف، أوحى النائب الأوّل للحاكم وسيم منصوري باتجاهه نحو سياسة مختلفة تمامًا عن سياسة رياض سلامة، من خلال الحديث عن التوجّه نحو سعر صرف عائم وموحّد لليرة، وتقييد استخدام المصرف للاحتياطات المتبقية. واشترط منصوري وجود قانون يحدد قيمة التمويل الذي تطلبه الحكومة من المصرف المركزي، للحد من الاستنزاف غير المحدود من الاحتياطات.
أمّا الأهم، فهو أنّ منصوري أصرّ على إشراك نوّاب الحاكم الآخرين في القرار ووضع الخطّة، في تحوّل مهم مقارنة بسياسة رياض سلامة، الذي اعتاد الاستفراد بالقرارات الأساسيّة من دون إشراك نوّابه.
في خلاصة الأمر، ستحدد الأسابيع التالية مدى جديّة هذه الوعود، ومدى اتجاه نوّاب الحاكم نحو تغيير جذري وفعلي في إدارة المصرف المركزي، ما يمكّن اللبنانيين من وداع نهج رياض سلامة في إدارة الشأن النقدي، بعدما ودّعوا في بداية الشهر الحالي شخص سلامة.
أمّا التحدّي الأساسي، فسيكمن في قدرة نوّاب الحاكم مجتمعين، ومعهم النائب الأوّل الذي تولّى صلاحيّات الحاكم، على مواجهة الضغوطات السياسيّة، التي يمكن أن تعارض حصول هذا التغيير.