هيبة العملة المصرية

14 مارس 2023
قلق بين المستثمرين ببورصة القاهرة من تخفيض جديد للجنيه المصري (Getty)
+ الخط -

قالت وكالة "بلومبيرغ" ‏إن هناك حجماً قياسياً لعمليات التحوط ضد انخفاض قيمة الجنيه المصري، بعد توقع العديد من البنوك الكبرى، العاملة في "وول ستريت"، ‏اضطرار البنك المركزي المصري لتخفيض قيمة العملة، مع تزايد الضغوط عليها في السوق المحلية.

‏وكانت الوكالة الأميركية تشير إلى عمليات العقود الآجلة غير القابلة للتسليم NDF، وهي التي سمح البنك المركزي للبنوك العاملة في مصر بالتعامل بها، في محاولة لطمأنة المتعاملين في السوق، وفي الوقت نفسه تقدير القيمة العادلة للعملة المصرية. ‏ونقلت الوكالة عن "سيتي بنك" قوله إن الطلب المتزايد على ‏الدولار في السوق المصرية لن يكون ممكناً إيقافه إلا من خلال سعر صرف أكثر مرونة، ومزيد من تدفقات الاستثمارات الأجنبية. ‏وأضاف البنك أن أنصاف الحلول لن تكون كافية، ‏إذ أدت إلى تعطل صفقات بيع الأصول المصرية، ‏وضعف أداء السندات المصرية في السوق الدولية. ‏وقالت "بلومبيرغ" إن ‏الفترة المقبلة ستوضح مدى التزام مصر بالانتقال إلى سياسة سعر الصرف المرن التي تعهدت بها لصندوق النقد الدولي، والتي تمكنت من خلالها من إتمام صفقة الحصول على تسهيل بنحو 3 مليارات دولار.

‏وأشارت "بلومبيرغ" إلى ما لاحظناه جميعاً من حركة محدودة لسعر الدولار في السوق المصرفية الرسمية، في وقت سيطرت فيه توقعات التضخم المرتفع على الأسواق، ‏وتحاول السلطات المصرية تحجيمه، خاصة بعد رفع أسعار الوقود، وقبل أيام قليلة من حلول شهر رمضان المبارك، المعروف عادة بزيادة الطلب فيه، وخاصة على المواد الغذائية، التي ارتفع سعرها الشهر الماضي أكثر من 60%، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.

المعنى نفسه تقريباً أكده فاروق سوسة، الاقتصادي ببنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس، الذي عبر عن اندهاشه من الاستقرار النسبي لسعر الجنيه رغم النقص الواضح في السيولة الدولارية.

وبعد ثلاثة تخفيضات كبرى، أطاحت نحو 50% من قيمة العملة المصرية، ما زالت العقود الآجلة تشير إلى تراجع جديد في قيمتها، قد يصل بها في غضون عام إلى سعر 38 جنيهاً للدولار.

وقالت "بلومبيرغ" أيضاً إن هناك علامة ضعف أخرى للعملة المصرية تظهر في سعر شهادات إيداع سهم البنك التجاري الدولي، التي يتم تداولها في بورصة لندن، حيث تظهر ضعفاً في قيمة الجنيه بنسبة تصل إلى 14%، مقارنة بسعر السهم في البورصة المصرية.

وتأتي كل تلك الإشارات مع قرب عودة موظفي صندوق النقد إلى القاهرة للاطلاع على التطورات الاقتصادية من أجل اتخاذ قرار بشأن صرف الدفعة الثانية من القرض.

وخلال الأسابيع الأخيرة تعثرت الصفقات التي كانت الحكومة المصرية تعول عليها للحصول على بضعة مليارات من الدولارات، كما لم تأتِ الأموال الساخنة بالأحجام التي توقعها البنك المركزي، بل وسمعنا بخروج بعضها قبل أن تحقق الآمال التي بنيت عليها، وتقلل الضغط على العملة المصرية، بينما عادت البضائع للتراكم من جديد في الموانئ المصرية.

وقال "سيتي بنك" إن حجم البضائع المتراكمة في الموانئ في الوقت الحالي يصل إلى 4 مليارات دولار، بعد أن كان قد انخفض إلى 2.5 مليار دولار في يناير/ كانون الثاني الماضي.

كل المؤشرات السابقة تقول إن العملة المصرية في طريقها لخفض جديد، لكن لا أحد يعرف هل سيكون مفيداً هذه المرة، أم أنه سيكون كسابقيه مجرد معول جديد في تدمير مدخرات المصريين ودخولهم وأصولهم، ومن ثم مستويات معيشتهم ومستقبل أبنائهم، في الطريق إلى تخفيض آخر.

ينتظر المستثمرون الأجانب تخفيضاً جديداً في قيمة العملة المصرية قبل تحويل أموالهم الساخنة للاستثمار في أوراق الدين الحكومية، وتنتظر الصناديق الأجنبية تخفيضاً جديداً قبل الاتفاق على شراء الشركات المملوكة للحكومة المصرية، وينتظر رجال الأعمال المصريون تخفيضاً جديداً قبل تحويل مكتنزاتهم من العملة الخضراء إلى الجنيه لاستئناف نشاطهم، الجنيه المتراجع منذ سبعة وعشرين شهراً، وعندما يأتي التخفيض الجديد، لا نرى هؤلاء، ونسمع توقعات بتخفيض آخر.

هذا ما حدث في التخفيض الأول، في مارس/ آذار 2022، والذي انتقل بسعر الدولار من مستوى 15.75 جنيهاً إلى مستوى 18.25، ثم 19.5، ثم 25، ثم 29، وصولاً إلى المستوى الحالي، بالقرب من 31 جنيهاً للدولار.

نعم هناك استيراد تم فتحه من جديد، بتعليمات من صندوق النقد الدولي، وهناك محاولات من المصريين لتحويل ما لديهم من مدخرات أو ثروات إلى دولارات، يمكن إخراجها من البلاد، وهناك أيضاً فاسدون، يخرجون حصيلة فسادهم لغسلها في بنوك خارج الأراضي المصرية، ولكن النتيجة واحدة؛ ضعف لا يتوقف للعملة المصرية، واستسلام تام من الحكومة والبنك المركزي.

لا نتحدث عن استسلام لتعليمات صندوق النقد، أو الشركاء الإقليميين في التنمية، وفقاً للاسم "السينمائي" الذي منحه صندوق النقد للدول الخليجية الداعمة للنظام المصري؛ وإنما يلفت نظرنا استسلام البنك المركزي لفتح باب الاستيراد من جديد بعد مواربته، ورفع سعر الفائدة على أدوات الدين المحلية إلى مستويات تدور حول 22%، وأخيراً للتخفيض المتتالي لسعر العملة المصرية، بينما لا يبدو أن هناك أي امتيازات تم تحقيقها، اللهم إلا مبالغ قليلة، تم جمعها من بيع حصة الحكومة في شركات ناجحة، تعمل وتصدر وتحقق أرباحاً، بينما بقي عجز السيولة الدولارية قائماً.

قبل عام كامل، كان الأجانب يبيعون دولاراتهم على سعر 15.75 جنيهاً، ويشترون أدوات الدين المصرية بعائد في حدود 15%. والآن وبعد مياه كثيرة جرت تحت الجسر، لا يرى هؤلاء حافزاً لدخول السوق، رغم أن دولارهم الآن يباع بنحو 31 جنيهاً، واستثماراتهم تجني عائدا يتجاوز 20%، فإلى متى نستمر في إغرائهم بتخفيض سعر الجنيه ورفع الفائدة؟

المشكلة ليست في الأسعار، وإنما هي في غياب الثقة بالعملة المصرية، والثقة لن تعود إلا من خلال تحجيم الطلب على الدولار للاستيراد. ووقتها فقط، ستأتي الأموال الساخنة والباردة مهرولة، ويمكننا وقتها أن نطمع في عودة الهيبة للعملة المصرية، بعد سنوات من "قلة القيمة".

المساهمون