يفتش مستثمرو "وول ستريت" في الولايات المتحدة، عمن يقدم لهم النصح في مواجهة تداعيات التضخم، الذي وصل إلى أعلى مستوياته في أربعة عقود، ما يعيد أكبر اقتصاد في العالم إلى حقبة استمرت من 1966 إلى 1982 وشهدت خلاله ما يعرف بـ"التضخم الأميركي العظيم" والذي وصل إلى 15% في بعض الأحيان.
لا يجد المستثمرون حالياً إلّا القليل ممن عايشوا تلك الفترة، وعلى رأسهم الاقتصادي هنري كوفمان، البالغ من العمر 94 عاماً، والملقب باسم "Dr. Doom" بمعنى "دكتور الموت" أو "دكتور الشؤم" كما نقول في العربية، بسبب وجهات نظره المتشائمة التي ترجح هبوط أسعار الأسهم والسندات في أغلب الأحوال.
وكثيراً ما ينتقد كوفمان السياسات الاقتصادية الحكومية في أميركا، وكان أحد القلائل الذين كانوا في مناصب قيادية أواخر السبعينيات، وما زالوا يتابعون الأسواق حتى يومنا هذا.
يمتلك كوفمان حالياً شركة كبيرة للاستشارات الاقتصادية والمالية، أسسها وأطلق عليها اسمه منذ أكثر من ثلاثة عقود، لكنّ شهرته ترجع بالأساس إلى فترة عمله لأكثر من ربع قرن في بنك الاستثمار "سالومون براذرز" الذي كان واحداً من أكبر خمسة بنوك استثمار في الولايات المتحدة وقتها.
وخلال تلك الفترة كان لكوفمان توقعات شديدة الدقة عن تحركات الأسهم، حتى أنّه في أحد أيام شهر أغسطس/آب 1982، وكانت البلاد تعاني وقتها أعلى مستويات التضخم والركود الاقتصادي، تنبأ بانخفاض معدلات الفائدة، وتسببها في حدوث طفرة في أسواق الأسهم، وهو ما حدث بالفعل في نفس اليوم، حين بدأت الأسعار في الارتفاع، محققةً أطول ماراثون في تاريخ الأسهم الأميركية.
والأسبوع الماضي، وبعد ساعات من الإعلان عن ارتفاع التضخم السنوي في أميركا في آخر شهور عام 2021 لأعلى مستوياته في أربعة عقود، مسجلاً 7%، اعتبر كوفمان أنّ البنك الفيدرالي ورئيسه الحالي لا يتحليان بالصلابة الكافية لمواجهة التضخم الذي يضرب البلاد، مؤكداً في حوارٍ مع وكالة "بلومبيرغ" الأميركية أنّ "تغيير الأوضاع باتجاه الابتعاد عن التضخم يتطلب مفاجأة الأسواق، لا أن يتم رفع معدلات الفائدة بالتدريج".
وقال الاقتصادي الذي كان أحد أهم أعمدة بنك الاستثمار الأكثر ربحية في الثمانينيات والتسعينيات في الولايات المتحدة، إنّ بول فولكر، رئيس البنك الفيدرالي الأسبق، نجح في النزول بمعدل التضخم من 15% تقريباً إلى 2.5% من خلال التقييد الشديد لعرض النقود ورفع معدلات الفائدة إلى 20%.
وأضاف أنّه لو كان سينصح جيروم باول، رئيس البنك الفيدرالي، بما ينبغي عمله في الظروف الحالية، لحثه على أن يكون "شديد القسوة" وأن يرفع معدلات الفائدة على أموال البنك فوراً بمقدار نصف في المائة، والإشارة صراحة إلى عزمه القيام بمزيد من الرفع خلال الفترة المقبلة.
ورأى كوفمان، أنّ باول ارتكب خطأين أساسيين: "أولهما إرجاعه جزءاً من ارتفاع معدل التضخم إلى التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للوباء (كورونا)، وهو ما يستحيل قياسه، والآخر وصفه للتضخم بأنّه مؤقت".
ولد كوفمان في ألمانيا عام 1927 وكان أبوه يعمل جزاراً، وهرب وأسرته من النظام النازي إلى أميركا قبل أن يكمل الحادية عشرة، وبعدها بثلاثة أعوام التحق بمدرسة جورج واشنطن الثانوية في منطقة مرتفعات واشنطن بمانهاتن العليا في نيويورك، التي سبقه إليها كلّ من هنري كيسينجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق، وآلان غرينسبان، رئيس البنك الفيدرالي الأسبق لخمس فترات متتالية خلال الفترة من 1987 إلى 2006.
درس كوفمان الاقتصاد في جامعة نيويورك، وحصل فيها على البكالوريوس، كما حصل على ماجستير العلوم في التمويل من جامعة كولومبيا، ثم دكتوراه في البنوك والتمويل من جامعة نيويورك عام 1958.
وعمل كوفمان في أحد البنوك التجارية بعد تخرجه، قبل أن يلتحق ببنك الاحتياط الفيدرالي في نيويورك، الذي خرج منه إلى بنك "سالومون براذرز" وبعد قضاء بعض الوقت هناك، لم يعد ينازعه أحد في كلّ ما يخص أسواق الأسهم والسندات والسياسة النقدية.