تأتي تركيا في مقدمة الدول المتضررة من غزو روسيا أوكرانيا، وإن على المديين المتوسط والبعيد، حيث لا تقتصر الأضرار على نحو 30 مليار دولار حجم التبادل التجاري مع البلدين، أو ثلث سائحيها الذين تعوّل عليهم بتوازن كفة خسائر العام الماضيين، أو حتى على سلاح الطاقة الذي يتعاظم إشهاره من الأطراف جميعها، على اعتبار أن نسبة كبيرة من واردات تركيا من النفط والغاز مصدرها روسيا.
بل تطول تداعيات الحرب، أو ستطاول كبرى أحلام تركيا بانتقالها من ضفة المستوردين للطاقة إلى موقع المنتج المكتفي، أو المصدر للغاز، في غضون السنوات المقبلة، بعد الكشف عن كنوز احتياطي الغاز في مياهها الإقليمية في البحر الأسود.
وتستورد تركيا نحو 53.5 مليار متر مكعب من الغاز ونحو 360 مليون برميل من النفط سنوياً تكلفها نحو 45 مليار دولار سنويا.
وقال وزير الطاقة فاتح دونماز، في تصريحات إعلامية مؤخرا، إن سفينة "الفاتح" تواصل أعمال الحفر الاستكشافية في حقل "قره سو-1" في البحر الأسود، مضيفاً للتلميح وأهمية استمرار الهدف، أن سفينة التنقيب الرابعة ستبدأ مهامها خلال شهر أو اثنين.
تأثير محدود حتى الآن
ويرى المحلل التركي باكير أتاكجان أن تأثير الحرب محدود، حيث إنها بعيدة حتى الآن عن حقول الغاز المكتشفة بالمياه الإقليمية التركية.
ويكشف أتاكاجان لـ"العربي الجديد" أن بلاده انتهت تقريباً من التجهيزات بالبحر الأسود، وهي اليوم في طور إنجاز تحضيرات النقل بالبر ومعالجة الغاز وتسييله ونقله إلى مناطق الاستهلاك.
وحول المخاطر على حلم تركيا بالغاز، بواقع استمرار أو تطور الحرب أو حتى دخول تركيا طرفاً، يضيف المحلل التركي أنه من الطبيعي وقتذاك أن تتأذى تركيا، على صعد عدة، وليس على مستوى غاز البحر الأسود فقط.
ورجح أتاكاجان أن تحافظ تركيا على موقعها كدولة مستقلة، من دون أن تبتعد عن "الواجب القانوني والأخلاقي"، بدليل إغلاقها مضيقي البوسفور والدردنيل ورفضها طلباً روسياً بالسماح بمرور أربع سفن، لأن المادة 21 من اتفاقية مونترو تمنح تركيا هذا الحق بحال الحرب، لأن ما يجري اليوم ليس نزاعاً كما بررت روسيا خلال طلبها إلى أنقرة، بل حرب.
من جانبه، قال مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بإسطنبول محمد كامل ديميريل، لـ"العربي الجديد"، إن اكتشاف 540 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في البحر الأسود بمثابة عصر تركي جديد في مجال الطاقة، متوقعاً أن العام المقبل سيشهد الإعلان عن استخدام الغاز المكتشف.
ويكشف الباحث ديميريل أنه باكتمال عمليات الحفر في 10 آبار بمنطقة توركالي داخل حقل غاز صقاريا تم الانتهاء من المرحلة الأولى، ومهمة سفينة الفاتح المقبلة، بعد شهر أو شهرين، هي إكمال حفر البئر السابعة بمهمة حفر بئر استكشافية جديدة في المنطقة الغربية من الحقل "قره سو-1"، وذلك بالتوازي مع عمل سفينة "القانوني" بإجراءات في أعماق البحر بهدف اختبار بئر توركالي-1.
ويقول الاقتصادي يوسف كاتب أوغلو إن تركيا لم تعلن بالنسبة لما تم اكتشافه عن الغاز إلا عن جزء "الثلث"، مقدراً الاكتشافات بنحو تريليوني متر مكعب.
حرب الطاقة
ولكن هل يكتمل الحلم التركي مع ملامح توسع المعارك بالدول المطلة على البحر الأسود، سألنا كاتب أوغلو، الذي لم ينكر أثر الحرب على إرجاء الاكتشافات والاستثمار على الأقل، لأن البحر الأسود برأيه سيكون خزان الغاز الهائل، وربما هذا أهم أسباب الحرب، فمن جهة، المحاولات الروسية للسيطرة على تلك الكنوز لتزيد صادراتها وتحكمها بالدول الأوروبية وغيرها، ومن جهة أخرى دول حلف الناتو التي لم يستبعد كاتب أوغلو أن تستغل المرحلة لإرسال سفن حربية، ومن ثم التنقيب بالمياه الدولية بعد فرض وصاية على أوكرانيا.
ولكن المحلل التركي يستدرك بأن بلاده طبقت اتفاقية مونترو بحزم وشفافية، فكما رفضت طلب روسيا مرور سفن حربية، سترفض مرور سفن لحلف الناتو، كاشفاً لـ"العربي الجديد" أن ما تم إعلانه من الجانب التركي عن مكتشفات الغاز بالبحر الأسود هو جزء، وقضية الطاقة وحقوق تركيا مسألة مصيرية لن يتم التنازل عنها أو حتى السماح بالعبث بها.
وأصبحت تركيا، التي تطل على بحر الحرب الأسود، وتتطلع للتحوّل من بلد مستورد ترهقه فواتير استيراد الطاقة إلى مصدّر يحقق حلمه بدخول نادي العشرة الكبار، أمام امتحان صعب اليوم، الأرجح ألا ينفع معه، بحسب مراقبين، استمرار مسك العصا من المنتصف.