هناك عرف مصرفي معروف ومطبق في معظم دول العالم منذ سنوات طويلة هو أنه لا يجوز لرؤساء الدول عزل محافظي البنوك المركزية، بل إن الدول تسن تشريعات تنص صراحة على استقلالية البنوك المركزية ومنع إقالة محافظيها.
وتعتبر الأعراف المستقرة السائدة عالمياً أن ارتكاب حماقة عزل محافظي البنوك المركزية من مناصبهم جريمة يعاقب عليها القانون، بل جريمة ترقى للجناية، ذلك لأن عزل المحافظ يشكل خطراً شديداً على اقتصاد الدول وأسواق المال والبورصات والقطاع المصرفي بها، بل وعلى استقرار البلد ككل، لأن البنوك المركزية هي ترمومتر الاقتصاد، تأخذ قراراتها بحياد وموضوعية وطبقا لأسس فنية بحتة، ولا تخضع مجالس إدارتها للضغوط السياسية والقرارات الحكومية.
ولذا وجدنا صداما بين الحكومات ومؤسسات النقد في بعض الدول بسبب الخلاف حول معالجة بعض القضايا الاقتصادية والمالية، فالحكومات تصدر القرارات التي ترضي الراي العام والناخب، في حين يتخذ البنك المركزي القرار الذي يصب في مصلحة الاقتصاد ككل.
والبنوك المركزية هي التي تحمي أموال المودعين، وتراقب القطاع المصرفي، وتحارب التضخم المرتفع، وتحدد حجم الأموال المتداولة في الأسواق والمجتمع، وتدير الدين العام للحكومة، والأهم أنها تتولى إدارة السياسة النقدية، وتحديد اتجاهات أسعار الفائدة والصرف، والتنسيق مع السياستين الاقتصادية والمالية لمنع حدوث تضارب قد يضر بالاقتصاد والمواطن.
ولذا استغربت من التسريبات التي نشرتها وسائل إعلام عالمية كبرى مثل رويترز والفرنسية وشبكة سي إن إن اليوم حول مناقشة دونالد ترامب في جلسات خاصة وسرية إمكانية إقالة محافظ مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، جيروم باول، بسبب إصرار البنك على رفع معدّلات الفائدة، خلافا لرغبة الرئيس الأميركي الذي طالب مرات بخفض العائد على الدولار خدمة لمصالح المستثمرين والشركات.
وعلى الرغم من أن وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشن، سارع ونفى الأنباء المتداولة ناقلا عن ترامب قوله "أنا لا أوافق بتاتا على سياسة الاحتياطي الفدرالي. أعتقد أن رفع معدّلات الفائدة أمر فظيع في هذه الفترة، لا سيما في ضوء المفاوضات التجارية المهمة الجارية، لكنني لم أقترح يوما صرف باول ولا أظنني أملك الحق في القيام بذلك".
إلا أنه يبدو أن التسريبات صحيحة إلى حد كبير، والدليل أن وسائل اعلام بارزة بدأت تطرح هذا السؤال: هل يجيز القانون الأميركي للرئيس عزل محافظ البنك المركزي؟
ويبدو كذلك أن أسواق العالم بدأت تأخذ هذه التسريبات على محمل الجد، خاصة أن ترامب أقال في فترة لا تتجاوز العامين من حكمه وزراء كثرا منهم وزراء الخارجية والعدل والدفاع والداخلية والصحة والخدمات الإنسانية وغيرهم، كما أقال مدير المباحث الفيدرالية والنائب العام وثلاثة مستشارين للأمن القومي وكبير موظفي البيت الأبيض ومديري الاتصالات بالبيت الأبيض وسفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة وغيرهم.
خطورة إقالة ترامب لمحافظ البنك المركزي، إن تمت، تعطي انطباعاً قويا بأن الرئيس الأميركي الحالي لا يحترم أي قوانين أو أعراف مصرفية، وتنزع الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة وهي أنها دولة تحترم سيادة البنك المركزي واستقلاليته، وأنها لم تعزل أي محافظ للبنك المركزي في تاريخها، كما تهز الإقالة الأسواق المالية المضطربة أصلا خاصة أسواق "وول ستريت".
والأخطر أنها تعطي الفرصة لكل الحكام الديكتاتوريين حول العالم بإقالة محافظي البنوك المركزية، والتدخل السافر في إدارة السياسة النقدية، والتلاعب في أرقام التضخم والنمو والتشغيل وتجميلها لصالح الحكومات.
والأخطر كذلك أنها تفقد الناس الثقة في القطاع المصرفي، لأن السياسة قد أقتربت منه، وأن الحكومة هي من تدير السياسة النقدية وليس البنك المركزي، وبالتالي يمكن للنظام الحاكم حينئذ الحجز على أموال المودعين وكشف سرية بيانات العملاء وفرض ضرائب على أرباح البنوك.
شخصياً، استبعد إقالة ترامب محافظ البنك المركزي الأميركي، فبالإضافة إلى أن القرار لعب بالنار ويعد خطاً أحمر لدى المجتمع، فإن الخطوة قد تقضي على النجاحات الاقتصادية التي حققها الرئيس الأميركي في أول عامين من حكمه وأبرزها الحد من البطالة وزيادة معدل التشغيل ونمو الاستثمارات والصادرات الخارجية.