قالت جريدة الشروق المصرية إن الرئيس عبد الفتاح السيسي أصدر قراراً جمهورياً بإزالة صفة النفع العام عن أراضٍ ومبانٍ تابعة لعدد من أهم الوزارات السيادية والخدمية.
وتضمن القرار نقل تبعية الأراضي والمباني بالكامل لصندوق مصر السيادي، وفقا لقانون الصندوق الذي يسمح لرئيس الجمهورية بإصدار قرارات بإزالة صفة النفع العام عن بعض أملاك الدولة ونقلها إلى الصندوق، تمهيدا للتصرف فيها.
وبينما كان المصريون مشغولين بمتابعة عمليات الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة المحاصر، قالت الجريدة الرسمية المصرية إن القرار شمل أراضي ومباني مقار وزارات العدل، والتجارة، والخارجية، والأمانة العامة لوزارة المالية، والتنمية المحلية.
ووفق الجريدة، فإن القرار شمل أيضاً أراضي ومباني مقار وزارات التربية والتعليم والتعليم الفني، والتموين والتجارة الداخلية، والصحة والسكان، والإنتاج الحربي والهيئة القومية للإنتاج الحربي، والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، والسياحة والآثار، والتضامن الاجتماعي، بالإضافة إلى مبادرة التجارة الخضراء، والهيئة العامة للتخطيط العمراني، والهيئة المصرية العامة للمساحة.
ورغم أن قانون الصندوق ينص على أن الأصول المنقولة إليه يمكن أن تخضع للتطوير، إلا أن واقع الأمور في مصر يقول إنها ستستخدم لتوفير بعض المبالغ بالعملة الأجنبية، للمساهمة في حل الأزمة الحالية، التي ما زالت حلقاتها تضيق على أعناق المصريين. وبناء عليه، فمن المؤكد أن يتم بيع أو تأجير أو طرح للانتفاع أو استثمار أو شراكة في الأصول المنقولة للصندوق، كما حدث من قبل مع أراضي ومباني مجمع التحرير، والحزب الوطني المنحل، ومبنى وزارة الداخلية القديم بشارع الشيخ ريحان.
والسؤال هنا.. هل هناك من يُحاسِب أو يُحاسَب، على عمليات نقل الملكية التي تتم على هذا الحجم من الأصول ذات القيمة المادية والمعنوية، وما قد يكون لها من قيمة غير ملموسة أو مكتوبة في دفاتر، أم أن "البساط أحمدي"؟
يقول جاكوب سول في كتابه الجميل (الحساب The Reckoning) إن نظم الحكم، في بلاد ما بين النهرين القديمة وحتى الوقت الحاضر، وسواء في أوقات شن الحروب أو حالات البناء والتعمير، اعتمدت على المحاسبة والرقابة المالية لتشكيل الإمبراطوريات وبناء الأمم والممالك والحضارات.
وتشكل الأدوات المحاسبية، بما فيها من عمليات تدقيق، ومسك الدفاتر ذات القيد المزدوج، أساس الرأسمالية الحديثة. ولم تكن الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009 سوى أحدث مثال على الكيفية التي يمكن بها للممارسات السيئة في المحاسبة المالية للشركات الكبرى أن تهز مجتمعات بأكملها، بل وتسقطها.
أما على مستوى الأوطان، فهناك آلاف الأمثلة التي يمكن من خلالها توضيح كيف ساهمت الممارسات المحاسبية في خلق ثروات هائلة لبعض الدول، بينما تسببت في دورات من الدمار، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، في البعض الآخر.
استخدمت عائلة ميديشي المصرفية واسعة الثراء في فلورنسا في القرن الخامس عشر، والتي لعبت دوراً رئيسياً في الحياة الاقتصادية والتجارية بالبلاد خلال عصر النهضة، أساليب محاسبية قوية لكسب ثقة عملائها، لكنها حادت عن تلك الأساليب بعد فترة، مما ساهم في النهاية في التدهور الاقتصادي لفلورنسا بأسرها.
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تجنب الحكام الأوروبيون المحاسبة الدقيقة لقراراتهم ونفقاتهم، بعدما شعروا بأن الإمساك الدقيق بالدفاتر، والمحاسبة المالية، من شأنهما أن يحدا من إنفاقهم، ومن ثم يتسببا في التشكيك في شرعيتهم.
وعندما نشر المدير المالي للملك لويس السادس عشر حسابات التاج في العام 1781، أثارت اكتشافاته غضباً عارماً ساعد في تأجيج الثورة الفرنسية. وبمجرد أن ترسخت المحاسبة الشفافة للملوك والرؤساء في القرن التاسع عشر، تمكنت إنكلترا من تأسيس إمبراطوريتها التي لم تغب عنها الشمس.
هي إذا دائرة مفرغة، يتخذ الحكام قرارات سيئة في إدارة الأمور الاقتصادية في البلاد، ثم يرفضون المحاسبة ويستدينون أملاً في كسب الوقت، ومع غياب المحاسبة، تكون الفرصة أفضل لاتخاذ المزيد من القرارات السيئة، وتنتهي الأمور بالبلاد إلى المزيد من الاستدانة، أو إعلان الإفلاس. وفي بعض الأحيان كلاهما معاً.
كان الملك الفرنسي لويس الرابع عشر واحداً من هؤلاء، وابتلاه ربنا بوزير مالية شهير، اسمه جون بابتيست كولبير. هذا الوزير كان سابقاً لعصره، وكانت لديه رؤية سليمة للكيفية التي يتعين أن تسير بها الأمور المالية.
قام كولبير بتصميم عدة كتيبات صغيرة ليقدمها للملك لويس الرابع عشر مرتين كل عام، وطلب منه أن يحملها في جيوب معطفه دائماً. وكانت هذه الكتيبات تعطي الملك صورة مفصلة عن أحدث حساباته، بما فيها من نفقات وإيرادات وأصول.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يهتم فيها ملك بمكانته بالمحاسبة. وبدا الأمر وقتها وكأنه نقطة انطلاق لنظم الحكم الحديثة والمساءلة، فها هو الملك يحمل حساباته في جيبه، ليتمكن في كل لحظة من معرفة الموقف المالي لمملكته.
ولكن لويس لم يسعد بهذه التجربة الرائدة، ولم يلتزم بها إلا لفترة قصيرة. وبمجرد وفاة كولبير، قام لويس، الذي كانت حساباته في أغلب الوقت في المنطقة الحمراء (خسارة – عجز – ديون)، بسبب ولعه بالقصور الفارهة مثل فرساي، والكثير من الأمور الأخرى مرتفعة التكلفة، بإلغاء فكرة دفاتر الحسابات.
وبدلاً من سعيه لاستخدام أدوات المحاسبة المالية لتسهيل نجاحه الإداري، رأى لويس في دفاتر حساباته أمثلة واضحة لإخفاقاته كملك. وبعد موافقته، وربما سعادته، بإرساء نظم المحاسبة والمساءلة، شرع الملك قليل البخت والعلم، في تفكيك الإدارة المركزية وأدوات الرقابة داخل مملكته، ظناً منه أنه الأعلم بما يتعين اتخاذه من قرارات، وتطبيقاً لعبارته الشهيرة "أنا الدولة "L'Etat c'est moi.
تسببت قرارات لويس بعد ذلك في منع أي وزير من انتقاد الإدارة المالية للملك بشكل فعال، ناهيك بفهمها. لم تعد الدولة العاملة تتدخل في قراراته، فظل على غيه، قبل أن يعترف وهو على فراش الموت بأنه أفلس فرنسا بإنفاقه غير الرشيد.