تتصاعد نبرة المسؤولين في الاقتصادات الكبرى حول العالم، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية واليابان والصين، بشأن السحب من احتياطياتها الاستراتيجية النفطية لدفع أسعار الخام إلى الهبوط، بعد أن عجزت عن الضغط على منظمة أوبك وحلفائها في الدفع بإمدادات أكبر لتلبية الاحتياجات المتزايدة، بفعل الانتعاش الاقتصادي عقب الخروج من الإغلاقات التي تسببت فيها جائحة فيروس كورونا العام الماضي.
وساهم التلويح باللجوء إلى الاحتياطي الاستراتيجي بالفعل، في دفع أسعار الخام إلى الهبوط خلال الأيام الأخيرة، إلا أنها عاودت الصعود مجدداً، اليوم الاثنين، وسط ترقّب وحذر من طرفي السوق لمدى إمكانية تنفيذ هذا التلويح على أرض الواقع، لا سيما أنه قد يتحول إلى فخ تذهب إليه الاقتصادات الكبرى بأنفسها، وفق محللين، بينما لن تتمكن من كبح أسعار الخام، وستدفع ثمناً أكبر نظير تحاشي غضب مواطنيها من زيادات الأسعار.
ووفق ما نقلت وكالة رويترز، اليوم، عن مصادر حكومية يابانية وصفتها بالمطلعة، فإن المسؤولين اليابانيين يعكفون على التوصل إلى سبل للتغلب على القيود المفروضة على السحب من الاحتياطيات الوطنية من النفط الخام، بالتنسيق مع اقتصادات كبرى أخرى، بهدف كبح الأسعار.
وتواجه اليابان، رابع أكبر مشتر للنفط في العالم، قيوداً على السحب من احتياطياتها، وهي عبارة عن مخزونات عامة وخاصة لا يمكن استخدامها عادة إلا في أوقات النقص.
الاحتياطي الأميركي يبلغ نحو 612 مليون برميل، ويستهدف بالدرجة الأولى تجنب صدمات الكوارث
وتحتفظ شركات يابانية خاصة بما فيها المصافي بحوالي 175 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات النفطية ضمن الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، وهو ما يكفي لاستهلاك حوالي 90 يوماً، وفقا للشركة الوطنية اليابانية للنفط والغاز والمعادن، وهي مؤسسة حكومية تدير احتياطي البترول الاستراتيجي وتتولى السحب من المخزونات بعد صدور قرارات بهذا الشأن.
ويأتي الإعلان الياباني عن دراسة السحب من احتياطي النفط الاستراتيجي، بعد أيام من تقدم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بطلب غير معتاد للقوى الاقتصادية الكبرى الأخرى لدراسة السحب من احتياطياتها.
وتحصل اليابان الفقيرة في الموارد على الكمية الأكبر من نفطها من الشرق الأوسط، وأدت زيادة أسعار النفط في الآونة الأخيرة وضعف الين إلى صعود تكلفة الواردات، مما وجّه ضربة مزدوجة إلى الدولة التي تعتمد على تصدير منتجاتها.
وشملت الدعوة الأميركية، الصين أيضا، أكبر مستورد للنفط في العالم، وثاني أكبر مستهلك له، بحسب بيانات الحكومة الصينية، ومنظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك".
وتزامنت هذه الدعوة مع تلويح أميركي باللجوء إلى الاحتياطي الاستراتيجي، إذ كشفت وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم، في وقت سابق من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن إدارة الرئيس جو بايدن تفكر في استخدام الاحتياطي كوسيلة يمكن أن تساعد في خفض الأسعار.
وقالت غرانهولم إن "الرئيس لا يريد أن يرى سعر الوقود يلحق الضرر بأناس حقيقيين"، وأن أسعار الوقود المرتفعة، مثل تلك التي شوهدت في أوروبا، غير مقبولة في الولايات المتحدة. وتابعت أن بعض الفقراء ينفقون ما يصل إلى 30% من دخولهم الشهرية على الوقود.
أوبك تتوقع ارتفاع الطلب العالمي على النفط إلى 100.7 مليون برميل يومياً في 2022 متخطياً تداعيات كورونا
لكن اللجوء إلى الاحتياطي الاستراتيجي في الولايات المتحدة ينطوي على مخاطر رغم تخفيفه صدمة الأسعار، حيث يبلغ حالياً نحو 612 مليون برميل، ويهدف في المقام الأول إلى تخفيف وطأة الكوارث الاقتصادية التي قد تتسبب فيها أحداث مثل الأعاصير أو الكوارث الطبيعية الأخرى.
لذا حذّر متعاملون في سوق النفط من أن اللجوء المحتمل إلى الاحتياطي الاستراتيجي قد يكون له تأثير ضئيل، حتى مع طرح إدارة بايدن للفكرة كوسيلة للتأثير على الأسعار.
وبعد احتساب المبيعات الإلزامية التي يوافق عليها الكونغرس مسبقاً، والحد الأدنى المطلوب في مواقع التخزين، من المحتمل أن تتمتع إدارة بايدن بالقدرة على استخدام 60 مليون برميل كحد أقصى فقط، وفقاً لمصدر في واحدة من أكبر شركات تجارة النفط في العالم، طلب عدم الكشف عن هويته، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ، في وقت سابق من الشهر الجاري. وتعادل هذه الكمية، ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أيام من متوسط الاستهلاك في الولايات المتحدة، بالنظر إلى مستويات 2020.
وتبدو الدول الأخرى، على رأسها اليابان والصين، حذرة أيضا في الإقدام على السحب من احتياطيها النفطي، رغم نبرة التصريحات المتصاعدة بشأن تنفيذ هذه الخطوة.
فرغم تراجع أسعار الخام عالمياً خلال الأيام الأخيرة تحت ضغط ارتفاع الدولار وتكهنات بأن إدارة بايدن قد تفرج عن كميات من الاحتياطي الاستراتيجي، فضلا عن المخاوف من عودة دول أوروبية إلى إغلاقات جزئية للحد من الإصابات الجديدة بفيروس كورونا، فإن أسعار النفط عاودت الارتفاع، اليوم الاثنين.
وصعد خام برنت إلى حوالي 79.2 دولارا للبرميل، بعد أن لامس 75 دولاراً للبرميل، الأسبوع الماضي. بينما زاد الخام الأميركي إلى 76.28 دولارا، مقابل 74 دولارا. وقبل التراجعات الأخيرة كان خام برنت قد كسر حاجز 85 دولاراً للبرميل، وسط توقعات من كبرى بنوك الاستثمار في العالم، لاسيما في الولايات المتحدة، بتخطيه 100 دولار للبرميل العام المقبل.
الصين راكمت كميات ضخمة من النفط في الربع الثاني من 2020، حينما انهارت الأسعار إلى أقل من 20 دولاراً لبرميل خام برنت وأقل من الصفر لخام غرب تكساس الأميركي
ويتجه الطلب العالمي على النفط الخام للصعود إلى 96.60 مليون برميل يوميا خلال العام الجاري، وحوالي 100.7 مليون برميل يومياً في 2022، مقابل 90.69 مليون برميل في 2020، و100.03 مليون برميل في 2019، وفق تقرير أوبك الشهري الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وتستحوذ دولتان اثنتان فقط على قرابة 30% من الطلب اليومي على النفط الخام، وهما الولايات المتحدة بمتوسط استهلاك يومي يبلغ 17 مليون برميل، والصين بمتوسط استهلاك 12.5 مليون برميل يومياً.
وفي المرتبة الثالثة تأتي الهند بمتوسط واردات يومية 4.1 ملايين برميل، تليها اليابان في المرتبة الرابعة بمتوسط يومي 2.7 مليون برميل.
وأقدمت الصين، في سبتمبر/أيلول الماضي، على خطوة من شأنها تهدئة أسعار الطاقة في أسواقها، لكنها لم ترق بشكل كامل إلى السحب من احتياطي النفط الاستراتيجي، حيث اتجهت إلى طرح جزء من احتياطاتها في مزادات، حسب بيان إدارة الاحتياطات من الطاقة والغذاء في بكين.
وبحسب محللين في قطاع الطاقة، فإن الصين أرسلت عبر بيع هذه الكميات النفطية وبمزاد علني، إشارة واضحة إلى أوبك وحلفائها على رأسهم روسيا فيما يعرف بتحالف "أوبك+"، أنها ستتدخل في السوق لخفض أسعار النفط، في حال ارتفعت الأسعار بمعدلات تضر بنمو اقتصادها.
وكانت شركات الطاقة الحكومية الصينية قد راكمت كميات ضخمة من الخامات النفطية، في الربع الثاني من العام الماضي، حينما انهارت الأسعار إلى أقل من 20 دولاراً لبرميل خام برنت وأقل من الصفر لخام غرب تكساس الأميركي. وتمت هذه المشتريات لصالح الاحتياطي الاستراتيجي الصيني من النفط.
وتقدر شركة "إنرجي أسبكتس" الأميركية حجم الاحتياطات الاستراتيجية لدى الصين بنحو 220 مليون برميل، لكن مصادر أخرى تقدر الكميات بأكبر من ذلك وتضعه في حدود 223.7 مليون برميل.
وتتخوف الحكومة الصينية من تداعيات ارتفاع النفط فوق 70 دولاراً على النمو الاقتصادي للبلاد. وعادة ما تؤثر أسعار المشتقات النفطية على أسعار المواد الاستهلاكية المنتجة، حيث تعد من بين المكونات الرئيسية في حساب كلف الإنتاج.
ويبدو أن الضغوط المتبادلة بين "أوبك+" والدول الكبرى المستوردة للنفط لن تهدأ قريباً. بينما بدا منتجو النفط أكثر تحوطاً في التعامل مع الأسواق العالمية، إذ لم تكن الضربة التي تعرّضوا لها مع انهيار الأسعار في السنوات الأخيرة بالهينة، ما يدفعهم إلى التمسك بزمام الأمور هذه المرة مع صعود أسعار الخام مجدداً، وتجاهل ضغوط واشنطن وكبار المستهلكين.
ويرى محللون أن تمسّك تحالف المنتجين بضبط الإمدادات يعد بمثابة رد للركلة التي تعرّضوا لها من قبل، بفعل تخمة المعروض التي أحدثها النفط الصخري الأميركي، وضغوط واشنطن خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لخفض الأسعار، فضلا عن تداعيات جائحة فيروس كورونا الجديد التي جرفت الأسعار للهاوية في العام الماضي.
وقفزت أسعار النفط منذ مطلع العام الجاري بأكثر من 70%، ما يرفد خزائن المنتجين، لا سيما دول الخليج، التي توقع صندوق النقد الدولي، في وقت سابق من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ارتفاع احتياطياتها الأجنبية بين 300 و350 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، مستفيدة من الارتفاع الكبير للأسعار.
كما تُخرج أسعار النفط المتصاعدة دول الخليج من دائرة الانكماش التي سجلتها العام الماضي، إذ توقع البنك الدولي، في أغسطس/آب الماضي، أن تنمو اقتصادات دول الخليج بنسبة 2.2% في العام الجاري، بعد انكماش 4.8% في 2020.
وتتعزز الأسعار بتمسّك تحالف "أوبك+" بخطته الرامية إلى زيادة الإنتاج تدريجياً، إذ يرفع في الوقت الحالي، الإنتاج اليومي بمقدار 400 ألف برميل، ويقاوم ضغط الأسواق العالمية لإنتاج المزيد، إذ اتفق على هذه الزيادة في يوليو/تموز الماضي، لتستمر كل شهر حتى إبريل/نيسان 2022 على الأقل، للتخلص تدريجيا من تخفيضات تبلغ 5.8 ملايين برميل يومياً.
شركة "إنرجي أسبكتس" الأميركية تقدر حجم الاحتياطات النفطية الاستراتيجية لدى الصين بنحو 220 مليون برميل
في المقابل، يتزايد الطلب على الخام. وقال داميان كورفالين، محلل شؤون النفط في بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس"، في مذكرة قبل أيام إن "الطلب في موسم الشتاء وانتعاش الطلب الدولي على وقود الطائرات يعنيان أن الاستهلاك سيصل إلى مستويات قياسية في أوائل العام المقبل".
وبعد أكثر من عام من انخفاض الطلب على الوقود، عاد استهلاك البنزين ومشتقات النفط الأخرى إلى الصعود في الولايات المتحدة، أكبر مستهلك للوقود في العالم، وكذلك الأمر في مختلف الاقتصادات الكبرى. كما تدعمت أسعار الخام بفعل المخاوف حيال النقص في الفحم والغاز في الصين والهند وأوروبا، ما دفع للتحول إلى الديزل وزيت الوقود لتوليد الطاقة.