مثلما تحول النفط إلى سلاح من قبل مصدريه في السبعينيات، تتزايد المخاوف في الولايات المتحدة، والدول الغربية بصفة عامة، من تزايد هيمنة الصين على تصدير ومعالجة المعادن المهمة، وما يمكن أن يسببه ذلك من تهديد.
ويكتسب الكوبالت والغرافيت والليثيوم والنيكل وعناصر الأرض النادرة أهمية خاصة، كونها ضرورية لتصنيع الأسلحة والهواتف الذكية والتقنيات الرقمية الأخرى، بالإضافة إلى استخدامها في توربينات الرياح والبطاريات والمركبات الكهربائية. وتقول مجلة "ذا إيكونوميست" إنه لا يمكن تخيل مستقبل الطاقة النظيفة بدونها.
وتحتكر الصين تقريبًا غالبية هذه المعادن، إذ تصدر ما يقرب من 90% من إمدادات عناصر الأرض النادرة المعالجة، كما أنها أكبر معالج لليثيوم.
وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تسعى أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وبلدان أخرى، إلى تنويع سلاسل توريد هذه المعادن بعيدًا عن الصين، في تشكيل جديد للجغرافيا السياسية المبنية على الموارد.
وتوضع خطط للتعامل مع سلاسل إمداد المعادن الحيوية الجديدة في المنتديات متعددة الأطراف، مثل التجمع الرباعي الذي يشمل أميركا، وأستراليا، والهند، واليابان. وتسعى البلدان الغنية بالموارد مثل أستراليا وإندونيسيا، حيث توجد وفرة من النيكل، إلى أن تكونا مركزاً لتصنيع البطاريات، يمكنهما من خلاله الاستفادة من حمى الاندفاع نحو هذه الصناعة المشتعلة حالياً.
وتضع الدول في هذا الصدد استراتيجيات، كما يقول المكتب الوطني للبحوث الآسيوية في سياتل، تكون منصبة على ثلاثة أمور، هي "دعم الأصدقاء"، وتحويل إدارة سلاسل التوريد من "في الوقت المناسب Just in time" إلى "في حالة الضرورة Just in case" لضمان تخفيض التكاليف، وأيضاً تأمين الطاقة الفائضة في معالجة المعادن.
وتأتي المبادرات المتعلقة بالمعادن في تلك البلدان بصورة متسارعة ومكثفة، حيث نقلت "ذا إيكونوميست" عن وزيرة الموارد الأسترالية مادلين كينغ إشارتها إلى أن هيمنة الصين تمثل "تحدياً استراتيجياً". والشهر الجاري، كشفت حكومتها النقاب عن استراتيجية التعامل مع المعادن المهمة.
وأستراليا هي أكبر منتج لليثيوم، وثالث أكبر منتج للكوبالت، ورابع أكبر منتج للعناصر الأرضية النادرة، إلا أن هذه المعادن ليست معالجة. وتهدف أستراليا إلى أن تصبح، بحلول عام 2030، منتجًا "مهمًا عالميًا" للمعادن الحرجة المعالَجة. وتقول كينغ إن بإمكانها "أن تقوم بدورها للتأكد من بناء سلاسل توريد آمنة".
ولتحقيق ذلك الهدف، خصصت أستراليا مبلغ 500 مليون دولار أسترالي (343 مليون دولار أميركي) لدعم المشاريع في إطار الاستراتيجية الجديدة، بالإضافة إلى صندوق قائم بالفعل، قيمته 2 مليار دولار أسترالي، لبدء مشروعات المعادن المهمة، ومن بينها مصفاة لمعادن الأرض النادرة.
ومنعت الحكومة الأسترالية هذا العام كيانًا صينيًا من زيادة حصته في شركة للعناصر الأرضية النادرة لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
وفي إبريل/ نيسان، زار وفد من المنتجين الأستراليين طوكيو، على أمل أن يوقعوا عقود شراء طويلة الأجل مع المستثمرين اليابانيين، ويفعلوا في صناعة المعادن المهمة في أستراليا ما فعلوه في السابق لقطاعي خام الحديد والغاز البارزين الآن.
وتبدو كوريا الجنوبية، ذات الطموحات العالمية في صناعتي السيارات والبطاريات الكهربائية، عرضة بشكل خاص للمنافسة بين أميركا والصين. وأصدرت الحكومة في وقت سابق من هذا العام خطة لتأمين الإمدادات المعدنية الحيوية، كان هدفها الأساسي خفض اعتماد البلاد على الواردات من الصين من 80% إلى 50% بحلول عام 2030 وزيادة استخدامها للمعادن المعاد تدويرها، من 2% إلى 20% من الإجمالي.
وتعمل تايوان والهند أيضًا على تحسس الطريق نحو تبني استراتيجيات جديدة للمعادن الحيوية.
ولكن يتمثل التحدي، في جميع الحالات تقريبًا، في احتكار الصين للمعالجة، وهو أمر مكلف ومعقد، ومن المحتمل أن يشكل خطرًا على البيئة. ومنذ عقود، ركزت الصين على المعالجة كجزء مهم من خططها الصناعية، باستخدام الإعانات الهائلة والمعايير البيئية المتساهلة.
وبصورة عامة، لم يعارض عملاء الصين احتكارها المعالجة، فرحين بانخفاض الأسعار بفعل المنافسة. لكن مع تنامي خطر الهيمنة، تنبهت اليابان للخطر في عام 2010، عندما أوقفت الصين تصدير العناصر الأرضية النادرة إليها انتقاما منها على خلفية النزاع حول بعض الجزر.
والعام الماضي هددت الصين بحجب المعادن المهمة عن شركتي دفاع أميركيتين، وهما شركة "لوكهيد مارتن" و"رايثيون تكنولوجيز"، احتجاجًا على بيع الأسلحة الأميركية إلى تايوان.
وبالنظر إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وتحويل الغاز الروسي إلى سلاح، تنامت المخاوف من تجدد ذلك الأمر مع عدو محتمل كالصين.
وبعد المواجهة مع الصين في عام 2010، شجعت حكومة اليابان شركة يابانية تجارية، تسمى سوجيتز، لتوقيع عقود شراء مع منتج أسترالي، مع دعمها بقروض منخفضة التكلفة، لترد الصين بإغراق السوق، ولتهوي أسعار العناصر الأرضية النادرة.
وفي ماليزيا، نمت المعارضة السياسية لمصنع معالجة "ليناس" الجديد، على الرغم من أن وكالة الطاقة الدولية أعطته شهادة صحية سليمة. وقامت مجموعة دعاية صينية، مدعومة من الحزب الشيوعي، بنشر معلومات مضللة حول المشروع. وتمكنت "ليناس" من النجاة في النهاية بفضل القروض منخفضة التكلفة من اليابان، والتي دفعتها مؤخرًا لاستثمار 200 مليون دولار أسترالي.
وفي ضوء هذه العقبات، والتكاليف المرتفعة للمعالجة الآمنة بيئيًا، فإن أي خطوة جديدة ستتطلب دعمًا طويل الأجل، حيث إن شركات التعدين القليلة الصغيرة لن تتمكن من تحمل تكاليف السكك الحديدية والبنية التحتية الداعمة الأخرى التي تديرها شركات خام الحديد العملاقة في أستراليا.
وتدعو أماندا لاكازي، الرئيسة التنفيذية لشركة "ليناس"، إلى "التخطيط المباشر للصناعة" لمنافسة الصين التي مرت بثلاثين عامًا من التفكير الاستراتيجي في ما يخص المعادن المهمة.
ويقول جون كوين من معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي في كانبيرا لمجلة "ذا إيكونوميست" إن التعاون بين الدول ذات التفكير المماثل سيكون أيضًا أمرًا بالغ الأهمية. ويهدف "حوار داروين" التابع لمعهده إلى تعزيز التنسيق بين أميركا وأستراليا واليابان في قضية عناصر الأرض النادرة.
وأكد كوين أن "الهدف، الذي تم تحقيقه من خلال الاستثمار والتعاون، يجب أن يكون اعتماداً أقل على الصين، ومزيداً من المرونة والمنافسة".
رغم كل هذه التطورات، لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله قبل بلوغ هذا الهدف المتواضع. فالصين تفرض السيطرة، وتكاليف الدخول في صناعة المعالجة ليست قليلة. وهذا الأسبوع، قال غريغوري هايس، رئيس شركة رايثيون، أكبر شركة لصناعة الصواريخ الموجهة في العالم، لصحيفة فاينانشيال تايمز الأميركية إن إنهاء اعتمادها على الإمدادات الصينية من المعادن الحيوية "يبدو مستحيلًا.. يمكننا التخلص من الأخطار، ولكن لا يمكننا أن ننفصل".