الأُسَر تبيع الزائد على حاجتها عندما تواجه أزمة مالية، دين مستحق عليها مثلاً وتتعثر في سداده، انقطاع الراتب أو الدخل الثابت الذي يتقاضاه رب الأسرة لفصله من عمله، بطالة مؤقتة قد يتعرض لها المعيل الرئيسي، بل قد تضطر إلى بيع عفش البيت إذا ما اشتدت الأزمة وفشلت في الاستدانة من الغير، أو تدبير قيمة الدين من مصادر أخرى ولو مؤقتة.
هكذا تفعل الدول، تبيع بعض أصولها عندما توجه أزمة مالية أو اقتصادية، تبدأ ببيع الكماليات ثم تنتقل لبيع أصول مهمة قد تعوضها مستقبلاً في حال عودة الأوضاع إلى حالها الطبيعي وانقشاع الأزمة وحصول فوائض مالية تمكنها من تأسيس أصول جديدة، مصانع وشركات وفنادق وبنوك.
الطائرات الرئاسية وأساطيل الحكومات من السيارات الفارهة ليست من الضرورات التي يجب المحافظة عليها وقت الأزمات المالية والمعيشية، بل يمكن تصنيفها على أنها من تلك الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها دون أن يترتب عن ذلك حدوث خلل في دولاب العمل اليومي أو توقف خدمة ضرورية مقدمة للأفراد والمجتمع.
فرئيس الدولة، أي دولة، لا يسافر كل يوم أو حتى كل أسبوع مثلاً، بل إنّ رؤساء دول قد لا يسافرون في العام كله سوى عدة سفريات قد لا تتجاوز عدد اليد الواحدة، بل قد لا يسافرون أصلاً، وطائرة صغيرة الحجم تكفي رئيس الدولة في حال السفر لأمر ضروري.
بل رأينا أنّ رؤساء دول يسافرون على الطائرات العادية التي تقل مئات المسافرين في الرحلة الواحدة، ورؤساء دول أفارقة حجزوا على الدرجة السياحية أو الاقتصادية العادية حتى يعطوا قدوة لباقي المسؤولين في ضرورة التقشف والحفاظ على المال العام في وقت الأزمات.
رؤساء الحكومات يجب أن يكونوا قدوة لأفراد المجتمع، وألّا يستفزوا العامة وقت تفشي الأزمات المعيشية وغلاء الأسعار وزيادة حدة الجوع والفقر.
وبالتالي ليس شرطاً تحرك هؤلاء في مواكب تستفز المارة وتعطل حركة المرور والإنتاج ووصول العمال لمصانعهم، أو التحرك بأسطول ضخم من السيارات الفارهة والحديثة مُلئ بجيش من المساعدين والمستشارين والإداريين والحرس وطاقم السكرتاريا، فسيارة واحدة تكفي إضافة إلى سيارة الحرس الخاص.
وكلنا نشاهد كيف أن رؤساء حكومات دول كبرى يستقلون دراجة للوصول إلى مقار عملهم، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يصل إلى مقر رئاسة الوزراء بدراجته، وكذا رؤساء حكومات دول أوروبية وآسيوية كثيرة.
الدول تبيع بعض أصولها عندما توجه أزمة مالية أو اقتصادية، تبدأ ببيع الكماليات ثم تنتقل لبيع أصول مهمة
بل إن رؤساء دول أوروبية لا يمتلكون طائرة رئاسية من الأصل، ويستخدم طائرة مخصصة لكبار المسؤولين كما هو الحال في أوكرانيا وغيرها.
وليس من المستحب سياسياً وأخلاقياً إعلان عقد رؤساء حكومات اجتماعاتهم في المصايف والساحل الشمالي في الوقت الذي يجد فيه ملايين المواطنين صعوبة في تدبير وجبة واحدة في اليوم، ولا أتحدث هنا عن ثلاث وجبات، فهذا السقف بات نوعاً من الرفاهية التي تحلم بها ملايين الأسر.
وكذا الحال ينطبق على الوزراء الذين يجب عليهم التقشف الشديد وشد الحزام وقت الأزمات، والابتعاد عن السفه وحضور المؤتمرات الوهمية والسفريات الخارجية التي يمكن إنجاز المطلوب منها عبر ارسال موظف صغير.
فالدول تبيع السيارات الفارهة عندما تواجه أزمة، والأهم أن تتوقف عن شراء أحدث السيارات من الخارج وبناء أفخم أنواع القصور والفنادق وناطحات السحاب والأنهر الصناعية ودور الأوبرا والمنتجعات السياحية حتى لا تستنزف ما بقي من نقد أجنبي يجب أن يخصص لتمويل واردات البلاد من القمح والذرة والأدوية وحليب الأطفال ومدخلات الصناعة والإنتاج.
ويأتي توفير الوقود من أولويات الحكومات، لأنّه بدلاً من ملء خزانات آلاف السيارات الحكومية بأطنان من البنزين الفاخر، يجب أن توجه المؤسسات الحكومية والرسمية هذا الوقود لتشغيل المصانع ومحطات توليد الكهرباء والطاقة وتموين السيارات التي تنقل البضائع والسلع للموانئ والمطارات لزيادة الصادرات، التي تعد المورد الأساسي للنقد الأجنبي في معظم دول العالم.
الأهم أن تتوقف الدول عن شراء أحدث السيارات من الخارج وبناء أفخم أنواع القصور والفنادق وناطحات السحاب والأنهر الصناعية ودور الأوبرا والمنتجعات السياحية
وليس من المقبول طبعاً تخصيص الدولة ملايين الدولارات لشراء الوقود الفاخر المخصص لتموين الطائرات الرئاسية والسيارات الحكومية الفاخرة وسيارات أبناء كبار المسؤولين والوزراء الفارهة في الوقت الذي تقترض فيه البلاد مليارات الدولارات لتمويل شراء الوقود والأغذية والحبوب.
هذا ما يحدث في دول كثيرة واجهت أزمات اقتصادية وندرة في النقد الأجنبي، وتمكنت من التغلب عليها.
المهم أن يتحرك الجميع، من مسؤولين وأفراد لمواجهة الأزمة معاً، يداً بيد، وأن يكون الحاكم والفريق المعاون له قدوة في التقشف وترشيد الإنفاق العام وحسن إدارة أموال الدولة.
والأمثلة كثيرة، فكما قلت، فإنّ رؤساء دول يتوقفون عن السفر لتوفير النقد الأجنبي، ورؤساء دول يخفضون رواتبهم ورواتب حكوماتهم، ويبيعون القصور والطائرات الرئاسية لشراء القمح والذرة والأدوية بدلاً من الاقتراض من الخارج وإغراق الدولة في مزيد من الأعباء المالية.
وجدنا مثلاً، دولة مالاوي الأفريقية تبيع طائرة الرئاسة النفاثة لإطعام أكثر من مليون شخص يعانون من نقص غذائي مزمن، والرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور قرر بيع الطائرة الرئاسية خلال مزاد، لتوفير الطعام لفقراء بلاده والدواء للمستشفيات.
كذلك عرضت المكسيك 60 طائرة و70 مروحية تملكها الدولة في مزاد علني.
وتكرر المشهد في دول أخرى عانت من أزمات مالية واقتصادية، وقاد حكامها خطوات تقشفية تمكنت من التغلب على تلك الأزمات.، من بين الخطوات بيع طائرات رئاسية ومئات السيارات المخصصة لوزراء وخفّض راتب كبار المسؤولين بنسبة تصل إلى الثلث.
مصر تعاني من الإفراط الشديد في الاقتراض، الذي رفع رقم الدين الخارجي من 40 مليار دولار إلى أكثر من 160 مليار دولار في غضون فترة لا تتجاوز 9 سنوات
مصر من بين الدول التي تعاني حالياً من أزمة مالية واقتصادية لأسباب عدة، منها الإفراط الشديد في الاقتراض، الذي رفع رقم الدين الخارجي من 40 مليار دولار إلى أكثر من 160 مليار دولار في غضون فترة لا تتجاوز 9 سنوات، وسوء إدارة المال العام وإنفاقه على مشروعات لا تمثل أولويات للمواطن والاقتصاد، وتأثر موارد الدولة الدولارية سلباً بوباء كورونا وحرب أوكرانيا والموجة التضخمية التي أشعلت أسعار الحبوب والوقود.
السؤال المطروح هنا في ظل تلك الأزمة التي لا ينكرها أحد ومحاولة البحث عن حلول للتغلب عليها قبل انفجارها: هل ستقدم الحكومة المصرية على تنفيذ خطوات تقشفية لا تمس المواطن ولا ترهقه بزيادة الضرائب والأسعار والرسوم وخفض الدعم؟
وهل سيكون من بين تلك الخطوات بيع الطائرة الرئاسية الجديدة بوينغ 747-8 التي من المتوقع تسلّمها خلال أيام وتبلغ قيمتها نصف مليار دولار، أي ما يقرب من 10 مليارات جنيه.
وقد يزيد الرقم مع التعديلات الجاري إدخالها على الطائرة الرئاسة الفخمة ذات الطابقين التي يصفها البعض بأنها واحدة من أغلى الطائرات في العالم، وأنها بمثابة مقر رئاسي، يضم حجرات نوم فارهة، وقاعة مؤتمرات وأخرى للاجتماعات، وصالة رياضية، ومركزاً لإدارة العمليات العسكرية، بعد تزويدها بنظام حماية متقدمة يعمل بالأشعة تحت الحمراء، ضد الصواريخ، وفرته الولايات المتحدة بنحو 104 ملايين دولار، خصوصاً أنّ الرئاسة تمتلك بالفعل طائرة فخمة؟